الإثنين، 06 أكتوبر 2025

07:38 م

نساء النصر وقلوب الفقد.. سلامٌ يليق بمن صبرن فانتصرن

كانت السماء في السادس من أكتوبر تحمل ضوءًا مختلفًا، كأنها تعاهدت مع الأرض على أن تُعيد إليها مجدها المفقود. ارتفعت التكبيرات في الأفق، واهتزت الرمال تحت أقدام رجالٍ عبروا الخوف قبل أن يعبروا القناة. لم تكن المعركة فقط مع الحديد والنار، بل مع الهزيمة التي استوطنت الصدور منذ زمن. في تلك اللحظة، وُلد الإيمان من جديد، واستيقظت الكرامة في قلب كل بيتٍ كان ينتظر خبراً من الجبهة… أو من القدر.

وفي أحد البيوت، جلست امرأة أمام صورةٍ مؤطرة لرجلٍ ما زال صوته يسكن الجدران. لم تذرف دمعة، ربما لأن الفقد كان أكبر من أن يُترجم بالبكاء. اكتفت بابتسامةٍ حزينة، تمسح بها على ملامحه، وتقول في سرّها: "كنتَ رجل الحرب، وأنا الآن امرأة النصر". لم تفقده تمامًا، لأنها تشعر أنه صار جزءًا من الوطن الذي صان كرامتها. كل صباح، حين تفتح النافذة، يدخلها نسيم أكتوبر فيُذكّرها أن ما يُؤخذ بالقوة يمكن استعادته بالعزيمة، وأن الحب لا يُهزم طالما ظل نقيًّا وصادقًا.

ذلك النصر لم يكن فقط انتصارًا للجيوش، بل كان عبورًا جماعيًا من الخوف إلى الإيمان، من الهزيمة إلى الثقة. وحتى داخل كل علاقة إنسانية، هناك حروب لا تُرى، وجبهات صامتة لا تُدوَّن في كتب التاريخ. هناك من يُقاتل ليحافظ على ما يحب، ومن يعبُر انكساره ليبدأ من جديد. فالقلوب أيضًا تحتاج لعبور، تحتاج أن تُعيد بناء نفسها بعد الخسارات، تمامًا كما أعاد الوطن بناء كرامته بعد الانكسار.

المرأة التي انتظرت عودة زوجها من الحرب، هي نفسها التي تنتظر في حياتها اليومية “سلامًا” بعد خلافٍ مرير أو وجعٍ عاطفيّ. تتعلم أن الصبر ليس ضعفًا، بل هو شجاعة من نوعٍ آخر. فالصبر الذي صاغ النصر في ساحات القتال، هو ذاته الذي يُعيد السلام إلى العلاقات حين تشتعل. لا فرق كبير بين معركة في ميدانٍ، ومعركة في بيتٍ يضج بالخذلان والعتاب. كلاهما يحتاج شجاعة وإيمانًا بأن ما يستحق البقاء، يستحق الصبر.

في نصر أكتوبر، كان مفتاح النصر “الثقة بالقيادة”. وثقة الجنود بقائدهم لم تكن عمياء، بل كانت ثمرة وعي وإيمان مشترك بالهدف. وهكذا في العلاقات بين الرجل والمرأة، لا يمكن لأي علاقة أن تنجو من عواصفها دون قيادة متوازنة وثقة متبادلة. حين يشعر الرجل أن زوجته تؤمن بقدرته، لا لتتبعه بل لتشاركه، يزدهر عطاؤه. وحين تشعر المرأة أن صوتها مسموع وكرامتها مصونة، تهدأ مخاوفها وتنضج مشاعرها. الذكاء العاطفي هنا يشبه التخطيط العسكري؛ معرفة متى تتراجع خطوة لتربح، ومتى تصمت لتفهم، ومتى تبادر لتمنع الخسارة قبل وقوعها.

في الحرب كما في الحب، لا ينتصر من يملك القوة وحدها، بل من يملك المعنى. ومن يستوعب أن الانتصار ليس نهاية المعركة، بل بدايتها نحو سلامٍ يليق بمن تعبوا ليصلوا إليه. لقد خاضت المرأة المصرية معركتها بصبرها، بدموعها المكبوتة، وبقوتها الهادئة التي جعلت من الفقد وسامًا، لا ندبة. لم تكن مجرد “زوجة شهيد”، بل كانت استمرارًا له، ووجهًا آخر من وجوه الوطن.

وحين نتأمل قلوب هؤلاء النساء، ندرك أن الحب الصادق لا يموت بالفقد، بل يتحول إلى طاقة نورٍ تسكن الذاكرة، وتمنح من بقي القدرة على الحياة. فالفقد الحقيقي هو أن يُهزم الإنسان داخله، أما من حافظ على كرامته رغم الألم، فقد انتصر.

سلامٌ لكل امرأة حملت وجعها بصمت، وابتسمت كي لا ينهزم من حولها. سلامٌ لكل رجلٍ أدرك أن البطولة ليست في الحرب فقط، بل في احتواء من يحب وقت الخلاف. سلامٌ لكل قلبٍ اختار الصبر على الانكسار، حتى عبر إلى الضفة الأخرى من ذاته.

نصر أكتوبر لم يكن صفحة في كتاب التاريخ، بل درسًا في العلاقات الإنسانية كلها: أن لا كرامة تُستعاد بلا تضحية، ولا حبّ يستمر بلا ثقة، ولا سلام يُزرع بلا صبر.
إنه يومٌ يذكّرنا أن من انتصر في الحرب، يستطيع أن ينتصر أيضًا في الحب — إذا حمل بداخله نفس الإيمان، ونفس النقاء. سلامٌ يليق بقلوبٍ صبرت… ونساءٍ انتصرن بالصبر على الفقد

search