الثلاثاء، 02 ديسمبر 2025

10:31 م

قبل إجراء العملية، شرط "إجباري" خفي يسبق مشرط الجراح في مستشفيات حكومية

أهالي المرضى أمام بنك الدم الرئيسي في انتظار دورهم للتبرع

أهالي المرضى أمام بنك الدم الرئيسي في انتظار دورهم للتبرع

في أحد الممرات الجانبية بمستشفى قصر العيني جلست أم في الثلاثينيات من عمرها تحتضن صغيرها "ياسين" صاحب السنوات الخمس، فيما كانت عينها تحدق في باب غرفة العمليات أكثر مما تلتفت لمَنْ حولها من المارة والمترددين على المستشفى.

لم تكن مشكلة أم ياسين في العملية التي سيخضع لها صغيرها بعد خطأ طبي سابق، بل في شيء أكثر قسوة.. شرط خفي يسبق مشرط الجراح في بعض المستشفيات الحكومية.. كيس دم واحد وإلا لن يفتح باب غرفة العمليات.

والدة ياسين أمام بنك الدم الرئيسي بالقصر العيني، للتبرع بالدم قبل إجراء العملية

في الممر آخرون ينتظرون المصير ذاته.. خمسيني يمسح جبينه بعد أن خرج من غرفة التبرع في مستشفى الدمرداش منتظرًا ختمًا على ورقة قد تحدد مصير عملية ابنته.. سيدة أخرى تبحث عن أربعة متبرعين لزوجها قبل جراحة قلب مفتوح.. ومسنة تبكي وهي تسمع من موظفة الاستقبال عبارة تمزق أملها: "دورك مش هييجي إلا لما تجيبي حد يتبرع".

لحظة تبرع أحد الأهالي بالدم، لاتمام إجراءات دخول العمليات لأحد أقرابه بقصر العيني

المرض ليس الخصم الوحيد داخل المستشفيات الحكومية.. هناك خصم آخر يقف خلف كل باب وكل توقيع وكل ورقة.. إجبار المرضى على التبرع بالدم سواء كان ضروريًا للعملية أم لا.

على مدار يومين، خاض فريق "تليجراف مصر" جولة بين مستشفيات قصر العيني والدمرداش والمنيرة، لرصد ما يحدث على أبواب غرف العمليات.. وجوه مرهقة ودموع محبوسة وتوتر لا يهدأ، بينما تظل العبارة نفسها تتكرر على ألسنة الجميع: "من غير متبرع مفيش عملية.. الدم مقابل الجراحة". 

مستشفيات قصر العيني، والدمرداش، والمنيرة العام

مقايضة على الحياة

تلك العبارة التي وقعت على رؤوسنا كنصل سيف حاد، كانت نقطة البداية لكشف عالم آخر داخل العديد من المستشفيات الحكومية، عالم يحكمه “بيزنس” يقوم على مبدأ لا يرحم: "المقايضة على الحياة".

في أحد ممرات مستشفى قصر العيني، تجلس سيدة ثلاثينية تحمل في يدها أوراقًا بينما يجلس بجانبها صغيرها "ياسين" صاحب السنوات الخمس، على وجهها يظهر التوتر، بينما تحكي لنا مشكلتها: “إحنا من صفط اللبن، وابني عملوا له عمليه غلط، النهاردا هنعملها من تاني”.

تأخذ الأم نفسًا عميقًا قبل أن تواصل حديثها: "قالوا لي لازم تجيبي كيس دم قبل ما ابنك يدخل العمليات ومش هيدخل إلا لو وفرتيه".

العملية التي سيخضع لها ابنها “تركيب شرائح ومسامير في إحدى قدميه"، لا تحتاج إلى دم وفق رواية السيدة، التي تتذكر بداية الأزمة: ”ياسين عمل حادث تسبب له في كسر وتم تركيب شرائح ومسامير لكن العملية غلط".

وتوضح أن الفريق الطبي فرض التبرع بالدم بشكل إلزامي: "ماعنديش مانع أتبرع للناس اللي محتاجة دم لكن مش فرض عليّا أتبرع بالعافية طالما ابني مش محتاج للتبرع بالدم".

توثيق رسمي يوضح أن الحجز بالقسم واستكمال إجراءات دخول العمليات يتم بعد التبرع بالدم 

في المكان نفسه، كشفت سيدة أخرى أن زوجها قبل إجراء عملية قلب مفتوح، طُلب منهم إحضار أربعة متبرعين.. تبرعت هي بكيس، ولا تزال مطالبة بتوفير ثلاثة أخرى قبل العملية.

السيدة قالت لـ"تليجراف مصر" أن أحد المستشفيات التابعة للتأمين الصحي طلب منها توفير 10 متبرعين بالدم قبل إجراء العملية، لكن هنا طلبوا منها 4 فقط.

غرفة ثلاجات حفظ الدم بمستشفى قصر العيني

مستشفى الدمرداش.. ودوامة الباركود

قصة أخرى بطلتها فتاة مريضة تُدعى ياسمين (17 عامًا)، ولكن هذه المرة في بنك الدم الرئيسي في مستشفى الدمرداش، تحدثنا إلى والدها الذي يكابد لأجل توفير أكياس دم لها حتى يجري لها الأطباء جراحة عاجلة. 

أمام بنك الدم خرج والد ياسمين، من غرفة التبرع، وعلى وجهه ملامح إرهاق وحزن، التف حوله أقاربه المتواجدون معه وسألوه: "سحبوا منك كام كيس؟ شربت العصير ولا لسه؟".

رد الرجل بصوت خافت: "الدكتورة هي اللي بتحدّد.. إدوني باركود وطلع إننا مطالبين بكيسين، خدوا مني كيس واحد ورفضوا ياخدوا من مراتي لأنها واخدة مضاد حيوي، ولسه محتاج كيس تاني ومش لاقي مُتبرع".

تدخلت ابنته ياسمين لتشرح الموقف: "لازم حد يتبرع علشان يدوني تصريح دخول العمليات، كان المفروض أتحجز النهاردا، بس علشان ماكملناش إجراءات التبرع مش هتحجز".

العملية مجانية.. لكن التبرع إجباري

ياسمين التي يُفترض أن تجري جراحة لـ"فتح الحجاب الحاجز  وتحويل مسار كلاسيكي"، أخذت الورقة التي تثبت أن والدها تبرع بالدم، لكنها تنتظر دورها في ختم الورقة بعد مراجعتها لتتمكن من دخول العمليات.

فيما واصل الأب حديثه: "العملية مجانية.. لكن التبرع إجباري، حتى لو مش هيستعملوا الدم.. لو احتاجوه بياخدوه، ولو ما احتاجوش بيروح لبنك الدم كتبرع للدولة.. ولو ماكانش فيه غير متبرع واحد يوم الحجز، لازم نجيب متبرع تاني".

استمارة رسمية يتم توقيعها بعد التبرع لتوثيق عملية التبرع بالدم

كل واحد مشغول بنفسه

أمام بنك الدم في المستشفى ذاته يقف رجل بينما يظهر على وجهه الغضب كرد فعل عن معاناة صديقه. يقول: "بقالنا يومين بنحاول ناخذ كيس دم لوالدة محمد صديقي فصيلتها O+، كل واحد هنا مشغول بنفسه بس".

‏في هذا المكان تمضي دقائق الانتظار كأنها ساعات، قبل أن يخرج محمد ممسكًا بملف مليء بالأوراق، بوجه شاحب متعب من كثرة الركض بين المكاتب للحصول على كيس دم لوالدته المحجوزة بالمستشفى.

محمد قال لـ"تليجراف مصر" إنه تبرع حتى يستطيع الحصول على كيس الدم، مشيرًا إلى أن هذا الأمر حدث معه في قصر العيني، فقد كان المستشفى يوفر دمًا من الفصيلة نفسها، ورغم ذلك أجبروه على التبرع عندما كانت والدته محتجزة هناك.

أهالي المرضى ينتظرون دورهم للتبرع أمام بنك الدم الرئيسي بمستشفي الدمرداش

الدفع أو التبرع لإجراء العمليات في مستشفى المنيرة

لا يختلف الأمر في مستشفى المنيرة العام عن غيره من المستشفيات.. يخرج عماد من بنك التبرع بالدم واضعًا قطعة قطن على ذراعه، ويبدأ في سرد قصته لنا: “زوجة أخي ستُجري عملية في المفصل، ولا بُد من التبرع بالدم وإلا ستتوقف أوراقها ولن تدخل العمليات”. 

يضيف عماد أنه بعد الانتهاء من الإجراءات سيطلبون ورقة تثبت أنه تبرع بالدم رغم أنها لا تحتاج للدم في هذه العملية، مؤكدًا أنه يوجد بديل للتبرع بالدم وهو دفع مبلغ مالي.

التبرع شرط إلزامي

أما “أم زين”، خرجت مسرعة من مكان التبرع واتجهت إلى استقبال المستشفى، كانت عينا السيدة مغرورقة بالدموع وهي تبحث عن ابنها الذي تعرض لحادث توكتوك.

تقول إنهم طلبوا منها التبرع بالدم قبل دخول العمليات أو حجز ابنها، واشترطوا تصوير ورقة التبرع كإثبات، لأن التبرع شرط إلزامي.

تبكي السيدة الخمسينية وهي تتحدث عن معاناتها لـ"تليجراف مصر": "قالوا لي لو مش معاكي متبرع، روحي القهوة اللي قدام المستشفى شوفي أي حد يتبرع لك".

قبل دخول الاستقبال يتجه أهالي المرضى نحو شباك ختم أوراق إثبات التبرع

لماذا يُجبر أهالي المرضى على التبرع بالدم؟

من جانبه، يفسر نقيب الأطباء الدكتور أسامة عبدالحي طلب المستشفيات من أهالي المرضى التبرع بالدم: "التبرع حاجة ماتزعلش حد.. مفيش إجبار"، نافيًا إجبار أقارب المريض على التبرع بالدم، مؤكدًا أنه لا يوجد نظام ثابت للتبرع الطوعي بالدم في مصر وأن المستشفى مطالب بالحفاظ على مخزون الدم لديه ما يدفعه لهذا الإجراء، وهو طلب التبرع من أحد الأقارب. 

نقيب الأطباء، الدكتور أسامة عبدالحي

توافر مخزون استراتيجي

فيما يقول رئيس المركز المصري للحق في الدواء الدكتور محمود فؤاد، إن المستشفيات تلجأ لإجبار المريض على إحضار متبرعين قد يصل عددهم لـ10 أشخاص لضمان توافر مخزون استراتيجي لمواجهة النقص الحاد والطوارئ ويغطي احتياجات باقي المرضى.

‏يؤكد فؤاد أحقية المريض في إجراء العمليات حتى في حال عدم إحضاره متبرعين، مشيرًا إلى أنه لا توجد حالة واحدة تم إلغاء العملية الخاصة بها لعدم توافر متبرعين.

رئيس المركز المصري للحق في الدواء، الدكتور محمود فؤاد

الحفاظ على رصيد داخل بنك الدم

وبرّر فؤاد إلزام أهل المرضى بالتبرع بالدم بأنه وسيلة للحفاظ على رصيد داخل بنك الدم خاصة أن المستشفى ملزم بتوفير من 2 إلى 3 أكياس من الدم كاحتياطي لكل مريض، بهدف استمرار تقديم الخدمات الطبية.‏

وتابع فؤاد: في حال أُجبر أي مواطن داخل مستشفى لأي شكل من أشكال الإيذاء، يحق له فورًا تحرير محضر رسمي، مشيرًا إلى أن هذا الإجراء تكرر مئات المرات، إذ يستدعي بعض الحالات الشرطة داخل المستشفى لتحرير محضر بما حدث، ثم يُحال الأمر إلى قسم الشرطة والنيابة لمباشرة التحقيقات، مضيفًا أن تقديم الشكوى لوزارة الصحة إجراء آخر متاح أمام المواطن.

وحاولت "تليجراف مصر" الحصول على تعليق رسمي من وزارة الصحة عبر التواصل مع متحدثها الرسمي الدكتور حسام عبدالغفار، لكنه فضّل عدم التعليق.

  المتحدث الرسمي باسم وزارة الصحة، الدكتور حسام عبد الغفار

إجراء احتياطي

غير أن مسؤول بالصحة أكد أن أي عملية داخل المستشفيات قد تحتاج إلى دم، ما يدفع الأطباء بإلزام ذوي المرضى بالتبرع بالدم كإجراء احتياطي، مؤكدًا أنه حال عدم الحصول على الدم كتبرعٍ من ذوي المرضى، لن يكون أمام المستشفى إلا توفير الدم من الاحتياطي المتاح لديه والذي قد ينفد بعد وقت.

وتابع المسؤول ذاته أن ما يحدث هو طلب التبرع بالدم حسب ظروف العملية، فبعض العمليات البسيطة يحتاج إلى كيس واحد والآخر قد يحتاج إلى 10 متبرعين. 

حظر الإجبار على التبرع

من جانبها، تقول عضو لجنة الصحة بمجلس النواب الدكتورة إيرين سعيد، إن الدستور المصري حظر الإجبار على التبرع بالدم، مؤكدة أنه إجراء طوعي، لافتة إلى أنها خلال فترة تواجدها بمجلس النواب لم تتلقَ شكاوى تفيد بتوقف المستشفيات عن إجراء العمليات بسبب عجز أهل المريض عن توفير كيس دم، أو حتى تأخر إجراء الجراحة لهذا السبب.

عضو لجنة الصحة بمجلس النواب، الدكتورة إيرين سعيد

وأوضحت سعيد أنه في حال تعرض أي مواطن لضغط أو إكراه للتبرع بالدم، فإن عليه التقدُّم فورًا بشكوى إلى وزارة الصحة أو مجلس الوزراء، وفقًا للجهة التابع لها المستشفى، سواء كانت أمانة المراكز الطبية المتخصصة، أو وزارة الصحة، أو المستشفيات الجامعية التابعة لوزارة التعليم العالي.

اقرأ أيضًا:

"الصحة" تطلق حملة قومية للتبرع بالدم في جميع المحافظات

إجبار فتاة على التبرع بالدم.. الداخلية تكشف مفاجأة

ما شروط التبرع بالدم في مصر؟

search