الإثنين، 22 ديسمبر 2025

06:38 ص

الست ما بين قبول «الخلاعة» ورفض «اغضب» | خارج حدود الأدب

الخلاعة والدلاعة مذهـــــــبي

من زمان أهوى صفاها والنبي

هل تتخيل، صديقي، أن تلك الكلمات كانت مطلع إحدى أغاني الست، كوكب الشرق، أم كلثوم؟

لا تتخيل، صحيح؟ ماذا لو زدتك مما يوصف – بهتانًا – بالشعر بيتًا أو ربما اثنين، هل ستغير رأيك؟

لما يخطر حبي عندي بمشــيته

تلقى قلبي له يميل من فرحــته

شوف دلاله ولا قده وطلــــعته

تفرح القلب يا ناس كده والنبي

ربما تكون أحد عشاق الست، وتكون قد أغلقت هذا المقال الآن، وأنت تنهال على شخصي باللعنات والسباب، فيما يتخطى بكثير حدود اتهامي بكوني كذابًا أشر، أو ربما تكون ما يخالف هذا، وتستمر في قراءة تلك السطور بحثًا عما يهز الهالة المقدسة التي أحاط بها محبو الست تاريخها، أو ربما تكون من محبي البحث وراء الحقائق والحوادث الغريبة مثلي، وتحليلها والوقوف على نتائجها للعبرة والتعلم أحيانًا، ولإشباع الشغف أحيانًا أخرى، وللمتعة في معظم الأحيان.

نعم، يا صديقي، وبلا أي مجال للشك أو التزييف أو التزوير، كانت تلك كلمات «طقطوقة» غنتها أم كلثوم في عام 1926م، كتبها يونس القاضي، ولحنها أحمد صبري النجريدي، بل وأطلقتها أم كلثوم مع شركة منتجة في أسطوانات انتشرت في القطر المصري آنذاك. 

ولكن قبل أن تتسرع في إصدار الأحكام، يجب أن تعرف الملابسات التاريخية والاجتماعية لإصدار تلك الأغنية.

فقد كانت تلك إحدى الخطوات الأولى لأم كلثوم، البنت القروية التي ما لبثت أن انتقلت إلى القاهرة، وكانت تتحسس طريقها في عالم الغناء وسط منافسة من عتاولة الفن في ذلك الوقت، أمثال منيرة المهدية ونعيمة المصرية وفتحية أحمد. 

وقتها كان الذوق العام تتجه بوصلته نحو الطقطوقة الخليعة المفعمة بالإيحاءات الجنسية، بل كان هناك من يستخدم ذبذبات وبحة صوته في إضفاء المزيد من الخلاعة على غنائه، كالسلطانة منيرة المهدية. 

تلك كانت سمة تلك الفترة، وقد كانت نوعية الأغاني المنتشرة من أمثال «البلبل جاني» لمنيرة المهدية، و«بعد العشا يحلى الهزار والفرفشة»، و«فيك عشرة كوتشينة» لنعيمة المصرية. وربما هذا القالب والنمط الغنائي المنتشر يوضح، ولا يبرر، إقدام أم كلثوم على إنتاج تلك الأغنية.

ولكن اللافت في تلك القصة كان رد فعل أم كلثوم نفسها بعد إصدار تلك الأغنية، فقد أثارت الأغنية الجدل، كعادة أغاني الصالات آنذاك، في الأوساط الفنية والثقافية والمجتمعية، وطالها نقد شديد من الخاصة قبل العامة. 

واستَمعت بعناية الآنسة أم كلثوم، التي كانت في أواسط العشرينات من عمرها، لتلك الانتقادات، واستشارت الدائرة المقربة حولها، وعلى رأسها والدها الشيخ إبراهيم البلتاجي، والصديق المثقف الجديد في ذلك الوقت، الشاعر أحمد رامي، لينصحوها بسحب تلك الأسطوانة مهما تكلف الأمر. 

لتدرك أم كلثوم، التي كانت في بداياتها الفنية المتعثرة، الخطأ، وتتراجع عنه بشجاعة، وتتفق مع شركة الإنتاج على سحب كافة الأسطوانات من السوق المصري، مع تكفلها بدفع التعويض المادي المناسب للشركة عن تلك الخسارة.

وربما كانت تلك الأغنية، وقصتها الغريبة، من تلك المحطات التي شكلت شخصية الأسطورة الكلثومية الخالدة فيما بعد، ورسخت الأخلاقيات والمبادئ العامة لما تقدمه من فن راقٍ يتخطى حدود الإمتاع والإبداع إلى الرسالة والمسؤولية. 

تلك القيم التي جعلتها فيما بعد، بعد ذلك بسنين، ترفض غناء قصيدة «اغضب» لنزار قباني، الذي كان قد عرضها عليها، رغم إعجابها بها، لأنها كانت ترى أن كلماتها لا تتناسب مع أخلاقياتها وما تحب أن تقدمه عن صورة العلاقة الرومانسية بين الرجل والمرأة.

واليوم، بعد قرن كامل على أغنية «الخلاعة والدلاعة مذهبي»، يطل علينا رواد السينما والأدب المصري بفيلم سينمائي أُحيط بهالة وضجة إعلامية ضخمة، يترجم حياة كوكب الشرق. 

وعلى الرغم من ذلك التقديم المهيب الذي أثار اللهفة والشغف في قلوب عشاق الست، في انتظار مطالعة هذا العمل الكبير، وللأسف الشديد، وبحسب الكثير من التقارير والمراجعات النقدية الفنية والجماهيرية للفيلم، فقد وجد مخيبًا للآمال على مناحٍ متنوعة، كالكتابة والمكياج والإخراج والتمثيل وتقمص الشخصية، والإخفاق في نقل التصاعد القوي في حياة وشخصية الست.

وقد استوقفتني كثيرًا كلمات كاتب العمل أحمد مراد حينما وصف معاناته في كتابة تفاصيل شخصية أم كلثوم بأنها أصعب من الترجمة لرسول. 

توقعت وقتها أن يخرج الفيلم من عباءة السيرة الذاتية الرتيبة التي لا تخفى تفاصيلها عن كبير أو صغير، وقد قُتلت بحثًا في آلاف المقالات والكتب والقصص والمسلسلات. توقعت أن يبحث وينبش في جوانب شخصية معقدة ومدفونة لتلك الأسطورة، يعالجها من منظور أدبي فريد. 

أيضًا، منى زكي، بعد تلك الخبرات في عالم التمثيل، توقعتُ منها أداءً يفوق، لا يحاكي، ما قدمته صابرين في تمثيل شخصية أم كلثوم. ولكن الأحلام والآمال والتوقعات يعز تحققها في هذا الزمان، وسرعان ما تتحطم على صخور الواقع المؤسف.

نهايةً، وكما اعترفت أم كلثوم في بداياتها بخطئها، وتحملت عواقبه في سحب أغنية «الخلاعة والدلاعة مذهبي»، وأسس ذلك لصناعة تلك الأسطورة، أتمنى أن يتلقى صناع العمل، بروح أدبية ورياضية، الانتقادات التي تلاحق فيلمهم؛ فإن النقد قد يأتي من كاره مترصد، ولكنه كثيرًا ما يأتي أيضًا من محب متشوق. 

وأرى أن أولى خطوات النجاح والإبداع هي الاعتراف بالأخطاء والتراجع عنها، لرسم أولى خطوط طريق النجاح، تمامًا كما فعلت الست.

search