
وعد بلفور.. وحرب كشمير | خارج حدود الأدب
في عام 1600م، كانت شبه القارة الهندية بالكامل الهند وباكستان حاليًا تحت سيطرة الإمبراطورية المغولية بقيادة الإمبراطور أكبر العظيم - اسمًا وقدرًا -، وكانت دولة إسلامية الدين، سنيّة حنفية المذهب، قوية وموحدة السلطة، تزخر بتنوع ديني وعقائدي ولغوي لافت. وعلى الرغم من هذا التنوع الذي قد ينذر بالكثير من التنازع، إلا أن التسامح والتعايش السلمي كانا قانون وشعار تلك الدولة.
ولا أبالغ حينما أقول إن الإمبراطورية المغولية في ذلك الوقت كانت من أكبر القوى العالمية مع الإمبراطوريات الإسبانية والبرتغالية والعثمانية، في حين كانت المملكة البريطانية ما زالت تحبو وتتحسس الطريق لموقع، ولو ثانوي، بين القوى العالمية. وكان قرار الملكة إليزابيث الأولى في نفس العام هو نقطة التحول الكبرى في تاريخ الهند وبريطانيا معًا.
كان قرار تأسيس "شركة الهند الشرقية البريطانية" هو القرار الذي غيّر مستقبل الإمبراطورتين، فقد كان المسمار الأخير في نعش الإمبراطورية المغولية، والمسمار الأول في عرش "الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس"، حيث كانت تلك الشركة التجارية هي حجر الأساس للاحتلال البريطاني للهند. ففي البداية، كان النشاط التجاري والاقتصادي للشركة هو الغطاء لاستغلال موارد الهند الكبيرة، ومن ثم تم إنشاء مستوطنات تحت عباءة التجارة والاستثمار، ثم توافدت القوات البريطانية لحماية تلك المستوطنات، فكانت النتيجة احتلالًا شبه متكامل للهند في عام 1757م بعد "معركة بلاسي". وفي نهاية المطاف، تم إعلان سقوط الإمبراطورية المغولية رسميًا، حيث أصبحت الهند تحت احتلال التاج البريطاني في عام 1858م.
ولكن قبل ذلك بعام، أي في عام 1857م، كان الحدث المفصلي الذي أدى إلى كل ما نتابعه الآن من خلافات وصراعات وحروب قديمة ومتجددة بين الهند وباكستان، بما فيها بالتأكيد النزاع التاريخي على كشمير. فقد شهد ذلك العام انتفاضة الشعب الهندي كافة، بكل فصائله وطوائفه ودياناته وأعراقه ولغاته، ضد نفوذ الاحتلال والضرائب والتمييز البريطاني ضد الجنود والشعب الهندي، الانتفاضة التي أُطلق عليها "الثورة الهندية الكبرى". وبالفعل، استعاد الثوار السيطرة على دلهي، وأعادوا تنصيب "بهادر شاه ظفر". آخر أباطرة المغول رمزًا للوحدة. ولكن، تلك الثورة لم يُكتب لها النجاح في مواجهة السيطرة البريطانية الكبيرة على البلاد في ذلك الوقت، لكنها أيضًا نبّهت المحتل لأخطر أسلحة الشعوب ضد نفوذه، وسلاحه الفتّاك من جهة أخرى في مواجهة تلك الشعوب.
فقد فطن الاحتلال البريطاني إلى أن أخطر أسلحة الشعوب ضده هو الوحدة، وسلاحه الفتّاك في مواجهة ذلك هو التفرقة وزرع الفتن، كما أوصى "ميكافيلي" المستعمرين وأصحاب السلطة في كتابه "الأمير": فرق تسد.
وكان سلاح ميكافيلي والاحتلال أنجع وأمضى. فبعد الثورة، أحكم الإنجليز قبضتهم على شبه القارة الهندية، وبدأوا في زراعة بذور التطرف والفرقة وتأجيج نار الفتن والعصبية الدينية والطائفية، ونجحت الخطة بقليل من الجهد في إفساد العلاقة بين أصحاب العقائد المختلفة، فتأجج الصراع الطائفي والديني بين أصحاب أكبر ديانتين في الهند، الهندوس والمسلمين، فأشعل البريطانيون بذلك نارًا لم تنطفئ حتى يومنا هذا.
ومع تداعي الاحتلال البريطاني في الهند، وقبل خروجه عام 1947م، كان الاستقطاب والانقسام الطائفي قد بلغ الذروة، فقرّر "اللورد لويس مونتباتن". إقرار خطة تقسيم الهند على أساس طائفي، مما منح المسلمين الحق في الأراضي الشمالية لتأسيس "باكستان"حاليًا، والهندوس الحق في الأراضي الجنوبية لتأسيس "الهند" حاليًا، فيما ترك الحرية لحكام بعض الأقاليم المتنازع عليها في الاستقلال أو تقرير المصير. وكانت "كشمير" ذات الأغلبية المسلمة والحاكم الهندوسي جزءًا من هذا الاستثناء، فيما عُرف حينها بـ "خطة مونتباتن".
ألا يذكّرك هذا، عزيزي، بحادث آخر تم برعاية الاحتلال البريطاني أيضًا، ولكن في منطقتنا، قام على نفس المبدأ الـميكافيلي الحقير، حينما وعد "اللورد بلفور" رئيس وزراء بريطانيا عام 1922م اليهود من أنحاء العالم بدولة على أراضي الشعب الفلسطيني، ومنح بذلك ما لا يملك لمن لا يستحق، وزرع نواة صراع ونزاع طائفي في المنطقة، تأجّج ولم يهدأ منذ ذلك الوقت. وعلى الرغم من أن اليهود كانوا منتشرين في الوطن العربي والإسلامي بتعايش وأمان، إلا أن الاحتلال أجج صراع يستفيد منه فيما بعد، حتى وإن انسحبت قواته من الأرض.
نعود للهند من جديد. مع الانقسام، احتدم الاستقطاب، وهُجِّر الملايين من ديارهم، وذُبح الملايين، كل هذا زيفًا، تحت راية الدين والأرض، تلك الأرض التي كانت في الأساس ملكًا لهم جميعًا دون تمييز. وانتفضت الأغلبية المسلمة في كشمير التي كانت ترى أحقية انضمامها لباكستان الإسلامية، بينما رفض ذلك حاكم كشمير الهندوسي، مما دفعه للهرب إلى دلهي والتوقيع على معاهدة تحت مظلة الاحتلال البريطاني، تُخضع كشمير للسلطة الهندية.
هكذا، يا صديقي، وبكل بساطة، استطاع الاحتلال في الهند وفلسطين، وفي كل منطقة طالتها يداه الآثمة، إشعال نار لا تنطفئ، بل إنه يغذيها بالحطب والوقود بين حين وآخر لتبقى مشتعلة، لتكتوي الشعوب بنارها، بينما يستمتع هو ويتربّح من دفئها، وتظل تلك المناطق تحت سيطرته بالولاء أو بالعداء أو حتى بالخيانة.
أختتم بأن أخبرك أني كنت في الهند فقط من أسبوع، وإذا زرت هذه البلاد ستندهش من التسامح الشديد بين ثمانية ديانات كبرى أساسية، ومئات الديانات والعقائد الأخرى. أكبرهم على الإطلاق الهندوس، ومن بعدهم المسلمون، والتعايش بين ما يقارب من سبعمائة عرق، فتجد هناك البيض والسود والصينيين وكلهم هنود متعايشون. بل إن تلك الدولة المليارية بها أكثر من مائة لغة وألفي لهجة، ولكنهم يتعايشون في سلام. تذهب إلى المطعم لتجد الأكل النباتي، وفي نفس الوقت الأكل الحلال. ذلك التنوع والتعايش الفريد، يتكسر ويتلاشى حينما تأتي سيرة أهل باكستان.
عزيزي، الطائفية، والتنازع العرقي، وحتى الحدود والدول بمفهومها الحديث، ما هي إلا أساطير وفزّاعات خلقها الاحتلال ليحكم قبضته على موارد تلك الأراضي التي تركها مرغمًا، وأغلب النزاعات والحروب المستعرة في أطراف العالم لهذه الأسباب، ما هي إلا وسيلة ميكافيليٌة ليبلغ المحتل غرضه الدنيء. بل إن تلك الفزّاعة الطائفية تتنافى بالكلية مع الفطرة ومع الدين، فقد قال الله عز وجل للناس كافة في كتابه الكريم في سورة الحجرات: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا". كما أوصى خاتم أنبيائه في سورة الكافرون: "لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ".
أعلم جيدًا وأنا أكتب هذه السطور أن كلامي هذا لن يتخطى حيز هذا المقال، وستظل الحروب والنزاعات تستعر بفعل فاعل، وهذا الفاعل فقط هو القادر على إخمادها - وقتما أراد -، ولكني كتبتها فقط لنفهم ونتدبر، لعلنا نتجنب الشطط "خارج حدود الأدب".

الأكثر قراءة
-
طبطبوا على الحرامي.. وصوروا البنات
-
تحرش داخل ميكروباص.. فحص واقعة تعدي شاب على فتاتين
-
إخلاء سبيل المتهمة بوضع صغيرتها بمرحاض مستشفى ببورسعيد.. محاميها يكشف السبب
-
بعد التصديق عليه.. متى يُطبق نظام البكالوريا؟
-
موعد ظهور نتيجة الدور الثاني للصف الثالث الإعدادي.. رابط مباشر
-
تقديم رياض الأطفال التجريبي 2025-2026 مرحلة ثانية.. فرصة أخيرة للطلاب
-
مواقيت الصلاة اليوم الجمعة 15 أغسطس 2025
-
مواعيد مباريات اليوم الجمعة 15 أغسطس والقنوات الناقلة

مقالات ذات صلة
مِثاليّةُ الغرب - حينما يَحذِفون الألف - | خارج حدود الأدب
15 أغسطس 2025 09:06 م
بيلا حضر.. وجرينديزر شَكَر | خارج حدود الأدب
08 أغسطس 2025 08:37 م
بائعة الفسيخ والأردنية وفتاة قمرون.. جيوش الزومبي | خارج حدود الأدب
01 أغسطس 2025 08:31 م
صراع العروش .. أوبببا!! | خارج حدود الأدب
10 يونيو 2025 04:47 م
أكثر الكلمات انتشاراً