الجمعة، 13 يونيو 2025

03:50 م

السفينة "مادلين".. ضمير العالم عالق في بحر غزة

السفينة مادلين

السفينة مادلين

مع بزوغ فجر أول أيام الشهر الجاري، كانت الأمواج تربت بخفة على جوانب قارب صغير راسٍ في ميناء كاتانيا الإيطالي، حين صعد إليه 12 ناشطًا من مختلف الجنسيات، لم يحملوا سلاحًا، ولا رايات حزبية، بل حقائب بسيطة تحمل المساعدات الإنسانية لأبناء الشعب الفلسطيني.

حكاية مادلين

"مادلين"، اسم القارب الذي كُتب بخط يدوي على جانبه الأبيض، يحاكي قصة الفتاة الغزاوية التي اعتادت مواجهة الحصار بالسنارة والشِباك، قبل أن تُقصف أحلامها مثلما قصفت مراكبها، بحسب تقرير نشرته BBC.

كانت الرحلة محفوفة بالمخاطر، فالركاب يعلمون جيدًا أن إسرائيل لن تدعهم يصلون إلى غزة، وبعد سبعة أيام من الإبحار في مياه البحر المتوسط، وعلى بعد أميال قليلة من شواطئ القطاع الفلسطيني المتأزم، كانت النهاية كما توقع الجميع: اقتحام، واعتقال، وتشويش على الاتصالات.

من هي مادلين؟

لم يأتِ اسم “مادلين” من فراغ، بل كان إشارة مباشرة إلى شابة فلسطينية تُدعى مادلين كُلّاب، أول فتاة تعمل بمهنة الصيد في غزة منذ أن كانت في الـ15من عمرها، حيث ظلت تتحدى أمواج البحر والحصار الإسرائيلي لتعول أسرتها، حتى فقدت والدها في قصف إسرائيلي عام 2023، ودُمِرت قواربها ومصدر رزقها في العدوان المستمر على غزة في مارس الماضي.

عندما علم نشطاء غربيون بقصتها من صديقة أيرلندية، قرروا تسمية القارب باسمها، تكريمًا لصمودها.

السفينة “مادلين”.. و"أسطول الحرية"

لم تكن "مادلين" مجرد مبادرة فردية، بل امتداد لتحالف دولي يُعرف بـ"أسطول الحرية"، انطلق للمرة الأولى في عام 2010.

يهدف هذا التحالف إلى كسر الحصار عن غزة من خلال قوافل بحرية سلميّة، تحمل مساعدات إنسانية، وترفع صوت الضمير العالمي ضد الحصار.

المنظمون أكدوا أن رحلة "مادلين" تمثل أحد أشكال المقاومة المدنية السلمية، وتعبّر عن إيمان جماعي بحق الفلسطينيين في الحياة بحرية وكرامة.

السفينة مادلين.. حمولة رمزية ورسالة ثقيلة

على متن السفينة كانت هناك شحنة إنسانية تحمل الدقيق، والأرز، وحليب الأطفال، والحفّاضات، وأدوات طبية وأطرافًا صناعية، بالإضافة إلى فلاتر لتحلية المياه، رغم بساطة الشحنة مقارنة بالحاجة الفعلية، فإن ثقلها الحقيقي كان معنويًا وسياسيًا.

منذ انطلاقها، كانت الرحلة محفوفة بالمخاطر، خاصة أنها جاءت بعد شهر واحد من استهداف إسرائيل سفينة إنسانية أخرى قبالة سواحل مالطا.

لحظة الصدمة.. اقتحام في عرض البحر

فجر يوم 9 يونيو الجاري، اقتحمت قوات كوماندوز إسرائيلية سفينة "مادلين" في عرض البحر، على بعد أميال من شواطئ غزة، وفق ما وثقه النشطاء، كما جرى التشويش على الاتصالات، وإلقاء مادة مهيجة من طائرات مسيّرة، قبل اقتحام عنيف بثت إسرائيل جزءًا من صوره لاحقًا.

وأظهر تسجيل مباشر بثته النائبة الأوروبية ريما حسن، لحظات الذعر، حيث كان النشطاء يستعدون للاعتقال، بعضهم ألقى بهواتفه في البحر لحماية المواد المصوّرة، وآخرون ارتدوا سترات النجاة في صمت موحش.

اعتقالات وتشويه

جرى احتجاز النشطاء في ميناء أسدود، ووصفت السلطات الإسرائيلية الرحلة بأنها "استعراض إعلامي"، مؤكدة أن المساعدات ستنقل إلى غزة عبر قنواتها الرسمية.

أربعة من المتطوعين رحلوا مباشرة، بينما رفض ثمانية آخرون التوقيع على أوامر الترحيل، ما دفع السلطات إلى إحالتهم للحجز تمهيدًا لترحيلهم قسريًا.

يفشل القارب.. وينجح الصوت

رغم أن القارب لم يصل إلى غزة فعليًا، فإن الرسالة وصلت بأقوى مما خُطِط لها، فقد ساهمت السفينة "مادلين" في تسليط الضوء مجددًا على حصار غزة، وأحيت ذاكرة العالم بحقيقة أن هناك أكثر من مليوني فلسطيني يعيشون في عزلة قسرية منذ 17 عامًا.

ودفعت الحملة الإعلامية المرافقة للرحلة، التي شاركت فيها ناشطات بارزات مثل جريتا تونبرج، إلى موجة جديدة من التضامن العالمي، أحرجت حكومات تجاهلت مسؤولياتها الأخلاقية، وأظهرت أن هناك من لا يزال يجرؤ على التحدي.

مقاومة سلمية تفضح الشرعية الزائفة

من زاوية القانون الدولي، مثّلت رحلة "مادلين" اختبارًا جديدًا للمجتمع الدولي، إذ أثارت عملية الاستيلاء على السفينة موجة استنكار عارمة في الأوساط السياسية والبرلمانية حول العالم، حيث وصف عدد من الأحزاب والنواب الواقعة بأنها “قرصنة بحرية متكاملة الأركان وانتهاك صارخ للقانون الدولي والإنساني”.

قرصنة مفضوحة على مرأى من العالم

فيما قال أستاذ العلوم السياسية، الدكتور نبيل فكري، إن استيلاء قوات الجيش الإسرائيلي على السفينة "مادلين" الإغاثية يعد اعتداءً فجًا على القواعد الإنسانية الدولية. 

وأضاف في تصريحات لـ“تليجراف مصر”: “مادلين كانت تحمل مساعدات طبية واحتياجات أساسية لأهالي غزة المحاصرين منذ سنوات، واعتراضها في عرض البحر يعكس بوضوح عقلية إسرائيل المتوحشة التي تضرب عرض الحائط بكل المعايير الأخلاقية والاتفاقيات الدولية”.

فكري شدّد على أن هذه الواقعة تمثل تصعيدًا خطيرًا ضد العمل الإنساني، وتماديًا من جانب إسرائيل في تقويض جهود الإغاثة الدولية، واعتداء مباشرًا على المدنيين، لا سيما أنها استهدفت متطوعين عزلًا جاءوا من بلدان عِدة، لا يحملون سلاحًا بل رسالة تضامن وإنسانية.

تقويض التضامن الدولي

وأشار إلى أن ما جرى مع "مادلين" لا يمكن فصله عن النهج العام الذي تتبعه إسرائيل منذ بداية الحرب الأخيرة، والذي يتضمن فرض حصار خانق على غزة ومنع إدخال المساعدات إليها، واستهداف حتى المبادرات المدنية السلمية التي تحاول كسر العزلة المفروضة على القطاع الذي مزقته الحرب من 7 أكتوبر 2023.

search