الإثنين، 16 يونيو 2025

12:56 ص

عمرو حسين
A A

صواريخ طهران تكشف أوهام القوة الإسرائيلية أمام البعد الجغرافي

لطالما اعتمدت إسرائيل في توازناتها الإقليمية على مزيج من الردع العسكري والدعم الأمريكي المطلق، متجاوزةً بذلك عيوبًا بنيوية تتعلق بغياب العمق الجغرافي وضيق المساحة وانكشاف الحدود. 

في المقابل، تثبت التجربة التاريخية أن مركز الثقل الحقيقي في الشرق الأوسط يتوزع بين ثلاث قوى محورية: مصر، بما تمتلكه من إرث حضاري وقوة ديموغرافية وزعامة للعالم العربي؛ وإيران، التي تستند إلى حضارة فارسية عريقة وامتداد جغرافي واسع؛ وتركيا، التي ورثت بقايا النفوذ العثماني وأعادت توظيفه في مشروع إقليمي نشط.

لكن العملية الإسرائيلية الأخيرة ضد إيران، وما أعقبها من رد صاروخي مكثف، أعادت تسليط الضوء على حدود هذه المعادلة وعرّت هشاشتها أمام اختبار الجغرافيا.

في فجر الثالث عشر من يونيو، شنّت إسرائيل ضربة جوية معقدة على أهداف داخل العمق الإيراني، استهدفت عبرها البنية القيادية للنظام وركائز البرنامج النووي ومراكز الدفاع الجوي. العملية، التي وُصفت بأنها «عملية جراحية دقيقة»، اعتمدت على تسلل استخباراتي منظم مكّنها من اغتيال ٢٢ من أبرز القادة العسكريين، بينهم حسين سلامي قائد الحرس الثوري، ومحمد باقري رئيس الأركان، فضلًا عن استهداف مفاعلي «أراك» و«نطنز»، واغتيال ١٢ عالمًا نوويًا مؤثرًا في جهود التخصيب والتطوير.

نجحت الضربة في إرباك القيادة الإيرانية لساعات، وأعطت انطباعًا خاطئًا بأن طهران عاجزة عن تنظيم رد انتقامي متماسك. غير أن المفاجأة جاءت سريعة حين ظهر المرشد علي خامنئي بخطاب تصعيدي متزامن مع إطلاق موجات من الصواريخ والمسيرات استهدفت العمق الإسرائيلي بجرأة غير مسبوقة.

تدل القراءة الاستراتيجية لهذه التطورات على حقيقتين مهمتين: الأولى، أن إيران استفادت من عمقها الجغرافي الهائل الذي يتيح لها توزيع مراكز القيادة وتطوير برامج تسليحية بعيدة عن مدى الضربات الجوية المحدودة المدى. والثانية، أن قدرة إسرائيل على تكرار مثل هذه الضربات لا تعني بالضرورة قدرتها على تحمّل تكلفة رد مماثل يطال جبهتها الداخلية شديدة الضيق والهشاشة.

فعلى مدار ست مراحل متتالية، نجحت الصواريخ الفرط صوتية الإيرانية في اختراق مظلة الدفاع الجوي الإسرائيلي، التي تروَّج لها كواحدة من أقوى أنظمة الاعتراض في العالم. لم يعد الحديث عن «القبة الحديدية» مجديًا أمام صواريخ تنطلق من مسافات شاسعة لتضرب تل أبيب، حيفا، بئر السبع، طبريا، والنقب، مجبرة ملايين الإسرائيليين على التزام الملاجئ لساعات، في مشهد لم تألفه إسرائيل منذ عقود.

أثبت هذا الرد بوضوح أن التفوق النوعي وحده لا يكفي لضمان أمن إسرائيل، إذا لم يُدعَم بعمق جغرافي يحمي الجبهة الداخلية ويمنح صانع القرار مرونة في إدارة الحرب. وهنا يبرز جوهر الفارق مع إيران، التي استوعبت الضربة الأولى بسرعة، وأدارت الرد بما أعاد فرض معادلة الردع المتبادل.

اليوم، يواجه رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو اختبارًا داخليًا عسيرًا، إذ لم يعد الشارع الإسرائيلي يثق بسهولة في مقولات الانتصار الدائم أو السلاح الذي لا يُقهر. وفي المقابل، أرسلت طهران رسالة واضحة بأن أي اعتداء مستقبلي لن يمر دون رد يكسر الهيبة ويعمّق الشكوك في قدرة إسرائيل على حماية أمنها، حتى في ظل الغطاء الأمريكي المفتوح.

إن استمرار إيران في التلويح بقدرتها على إطلاق أكثر من ٢٠٠٠ صاروخ إذا اقتضت الضرورة، يضع واشنطن أمام معضلة حقيقية: إما التورط في مواجهة إقليمية مفتوحة قد تضعف صورة إسرائيل كحليف استراتيجي موثوق، أو العودة سريعًا إلى طاولة المفاوضات لإعادة ضبط قواعد اللعبة، بما يضمن حفظ التوازن ومنع انفجار أكبر.

في النهاية، كشفت أحداث يونيو أن الجغرافيا تظل عنصرًا حاسمًا في معادلات القوة، وأن أوهام إسرائيل في ردع خصومها بالاعتماد على السلاح فقط، دون سند جغرافي أو عمق تاريخي، سرعان ما تتبدد أمام أول اختبار مع دولة تمتلك الأرض والقدرة والإرادة.

search