الخميس، 19 يونيو 2025

11:50 م

د. أمل منصور
A A

الطلاق الرمادي

“ليست كل العلاقات الطويلة دافئة، وليست كل النهايات المفاجئة وليدة اللحظة”.

في السنوات الأخيرة، ظهر مصطلح جديد في عالم العلاقات: الطلاق الرمادي، ويقصد به حالات الانفصال التي تقع بعد سن الخمسين، بين أزواج مضى على زواجهم عقود طويلة. زواج بدا من الخارج مستقرًا، لكن داخله ظل يتآكل في صمت، حتى انتهى فجأة.. دون عاصفة.

قد يبدو للوهلة الأولى أمرًا صادمًا: كيف ينفصل من عاشا معًا نصف أعمارهم؟ كيف يفترقان وقد أنجبا وربّيا، واحتفلا سويًا بأعياد ميلاد الأبناء، وبكيا سويًا في ليالي القلق والخوف؟ لكن الواقع يقول إن العمر وحده لا يكفي لبقاء العلاقة، وإن العشرة لا تُقاس بعدد السنوات، بل بعمق الحضور، بصدق التلاقي، وبالقدرة على النمو المشترك.

أن نكبر معًا لا يعني فقط أن نكبر في السن فقط  جنبًا إلى جنب، بل أن نكبر في الوعي، في النضج، في تقبّل اختلافاتنا، في التعبير عن احتياجاتنا، في اكتشاف ذواتنا، معًا.
الخطر الحقيقي يبدأ حين يتقدّم أحد الطرفين كثيرًا في وعيه أو أحلامه، بينما يظل الآخر ساكنًا في مكانه، أو متأخرًا بعدة محطات. الخطر يكمن في أن يفقد أحدهما الحماسة للنمو، أو الشجاعة للتغيير، أو القدرة على التواصل بلغة جديدة حين تفشل اللغة القديمة.

كثير من هؤلاء الأزواج، بعد أن يكبر الأبناء، يجدون أنفسهم وجها لوجه أمام شريك غريب... غريب برغم كل الذكريات، أو ربما غريب بسببها. فقد ناموا لسنوات على وسادة واحدة، لكن كلٌ منهم كان يحلم بمفرده. لم تكن هناك أحلام مشتركة، بل مجرد اتفاق غير معلن على تأجيل الانفجار... حتى إشعار آخر.

وغالبًا ما تختلف دوافع الطلاق الرمادي بين الرجل والمرأة، حتى وإن تظاهر كلاهما بنفس الحزن.
فالمرأة قد تصحو فجأة على شعور بأنها ضحّت كثيرًا، وأن ما تبقّى من العمر لا يحتمل المزيد من التنازلات. أما الرجل، فقد يجد نفسه راغبًا في بداية جديدة، يتوهّم أنها ستعيد إليه شبابه أو قيمته التي ضاعت في زحام المسؤوليات.

لكن في الحالتين، يكون الانفصال نتاج صمت طويل، لا أزمة عابرة.

إن الطلاق الرمادي لا يحدث لأن العلاقة انتهت فجأة، بل لأن أحدهما – أو كلاهما– توقف عن الحضور منذ زمن، وترك الآخر يُكمِل وحده الرحلة. فالعلاقات لا تتآكل حين تمر السنين، بل حين تتوقف القلوب عن السعي، والعقول عن التفاهم، والأنفاس عن الإصغاء.

الطلاق الرمادي يشبه بيتًا قديمًا احتفظ بطلاءٍ جميل وديكور أنيق، تُنفق عليه الأسرة جهدها لتجميله وترتيبه، فيبدو للزائرين دافئًا ومتينًا. لكن خلف هذا الجمال، في الجدران التي لا يراها أحد، هناك تسريبٌ خفيٌّ بدأ منذ زمن في الأساسات التي لم تُفحص منذ سنين. ومع كل عام، يأكل الماء ما تبقى من تماسك البنيان، بينما العيون مشغولة بالستائر الجديدة، والزهريات الأنيقة. وحين ينهار البيت فجأة، يبدو الانهيار مفاجئًا، بينما الحقيقة أنه كان يتآكل بصمت، قطرةً... فقطرة..
التسريب هو تلك التفاصيل الصغيرة المهملة في العلاقة: 

  • غياب الحوار الحقيقي رغم الحديث اليومي. 
  • تراكم المشاعر المكبوتة التي لم تجد طريقًا للبوح.
  • الإهمال العاطفي المتبادل، حين يغيب الاحتواء ويُظن أن الحب أصبح زائدًا عن الحاجة.
  • التجاهل المستمر للفتور لأنه "عادي" بعد سنين.
  • الصمت وقت الخلاف بدعوى الحكمة، بينما هو هروب.
  • عدم تجديد العلاقة أو إعادة تعريفها بعد تغيّر المراحل والاحتياجات.
  • هذه "التسريبات" لا تُحدث ضجيجًا، لكنها كفيلة بتفريغ العلاقة من معناها، حتى إذا وصل الشريكان لسن الستين، لم يبقَ شيء ليُصلح
  • التآكل العاطفي الصامت: مشاعر تُهمل، حوارات لا تُقال، ألم لا يُعبَّر عنه
  • الاعتياد السلبي: الرضا بالفتور على أنه "استقرار".
  • الانسحاب الداخلي: كل طرف يعيش في جزيرته دون أن يشعر بأن الآخر بدأ يبتعد تدريجيًا.
title

مقالات ذات صلة

search