الخميس، 28 أغسطس 2025

07:58 م

سامح مبروك
A A

براءة البربر| خارج حدود الأدب

من قواعد مونتيزوما… إلى شواطئ طرابلس؛
From the Halls of Montezuma … To the shores of Tripoli;
نقاتل معارك وطنــنا… في الجوّ، على البرّ، وفي البحر
We fight our country’s battles … In the air, on land, and sea;

هذه يا صديقي الأبيات الافتتاحية لنشيد "المارينز" (القوات البحرية الأمريكية). ولعلّك تتساءل الآن، كما تساءلتُ أنا حين قرأتها: ما سبب ذكر مدينة طرابلس في صدر هذا النشيد؟ وأي طرابلس يُقصَد؟ أهي الليبية أم تلك اللبنانية؟

وبدافعٍ من الفضول، انطلقتُ في رحلاتٍ مكوكية عبر محركات البحث لاكتشاف الفصول الحقيقية للحكاية. فاتضح أنّها حكايةٌ "هوليوودية" من طرازٍ رفيع، ليس فقط في تفاصيلها الملحمية، وأيضًا في تطابق بعض تفاصيلها مع الواقع الحديث، ولكن كذلك في التباين اللافت لمنظور الراوي للأحداث. ورأيتُ أن من الواجب أن أشارككم ما وجدته.

في عام 1795م، كانت الولايات العثمانية الغربية، وهي الجزائر وتونس وطرابلس (الليبية حاليًا)، تمثّل ولاياتٍ شبه مستقلّة، لكنها ما تزال تحت سيادة "الباب العالي". وكانت أساطيلها البحرية تفرض سيطرةً كبيرة على البحر المتوسط، وتفرض رسومًا على السفن التجارية الأوروبية والأمريكية لضمان حمايتها ومرورها بسلام. وهذا ما كانت تُسمّيه الدول الإسلامية "جِزْيةً"، بينما تسمّيه الدول الغربية "قرصنة"، وأرى أنّه أقربُ إلى ما نسميه اليوم "رسومًا" أو "تعرفةً مرورية" أو حتى "ضرائب".

وكانت الولايات المتحدة قبل استقلالها لا تدفع الجزية، لأن بريطانيا كانت تدفع نيابةً عنها. وقد كانت أمريكا تطمع أن تبقى معفاةً من تلك الجزية بعد استقلالها، إلا أنّ رفع علمها على سفنها غيّر الوضع، وجعلها هدفًا للجزية من الأسطول العثماني في البحر المتوسط. 

وبالفعل، في العام المذكور، وبعد مناوشاتٍ مع ولاية الجزائر تحديدًا، وقّع الرئيس الأمريكي الأول جورج واشنطن على "معاهدة السلام والصداقة" مع الجزائر. وكانت تقضي بدفع جزيةٍ مقدَّمة للجزائر بمقدار 642,000 دولار نقدًا (وهو مبلغٌ ضخم جدًا بمقاييس القرن الثامن عشر)، بالإضافة إلى مبلغٍ سنوي يُقدَّر بحوالي 23,000 دولار كهدايا عسكرية وبحرية. وفي العام التالي، وقّع الرئيس نفسه مع والي طرابلس يوسف القَرَمانلي على معاهدةٍ مماثلة، تقضي بدفع 40,000 دولار دفعةً أولى، إضافةً إلى 12,000 دولار سنويًا.

وفي عام 1801م، كان الحدثُ الجَلل الذي قلب مجرى التاريخ تمامًا. حدثٌ لا بد أن نتذكره سويًا حتى نهاية المقال. فقد قرّر يوسف القرمانلي أنّ مبالغ الجزية التي تتقاضاها ولاية طرابلس من الولايات المتحدة قليلة، مقارنةً بما حصلت عليه وتحصّله الولايةُ الجارة الجزائر. وهنا خاطب القرمانلي الرئيس الثالث للولايات المتحدة، توماس جِفْرْسُن، لزيادة الجزية ومساواته بالجزائر. وللمصادفة، كان الأخير من أشد المعارضين لمبدأ الجزية بالكلية، بل طالب كثيرًا بالتوقف عن دفعها قبل أن يعتلي سدّة الحكم. وبالفعل، واجه جِفْرْسُن طلب القرمانلي بالرفض. فاستفزّ هذا الرفضُ الأخيرَ، فقام بقطع سارية العَلَم الأمريكي أمام القنصلية الأمريكية بطرابلس في الرابع عشر من مايو من العام المذكور، فيما كان يُعَدّ آنذاك إعلانَ حرب.

وسرعان ما لبّى جِفْرْسُن نداء الحرب، فصادق على إرسال "السرب المتوسطي الأول"، الذي كان يتكوّن من أربع فرقاطات، منها السفينة "بوسطن" التي كانت تُعَدّ واحدة من أكبر السفن في الأسطول الأمريكي آنذاك، إضافةً إلى الفرقاطة "فيلادلفيا" التي كانت تليها في القوة والحمولة والحجم. وقد كان السرب يمثّل ثُلث القوة البحرية الأمريكية بالكامل، التي كانت تتكوّن من ثلاث عشرة فرقاطة. وبدأ السرب تحركه بالفعل في الأول من يونيو، ووصل مضيق جبل طارق في سبتمبر، وبدأ عملياته العسكرية قرب سواحل طرابلس في أكتوبر من العام 1801م.

ولم تكن الحربُ عسكريةً بالمعنى الواضح، بل محاولاتٍ لفرض السيطرة واستعراض القوة من الجانب الأمريكي، تقابلها محاولاتٌ للمواجهة والردع من جانب طرابلس. مما أطال أمد الحرب، ومنع أن تنتهي إلى حلول دائمة، سواء عسكرية أو سياسية. 

وتوالت فصول المناوشات، التي كانت أشبه بـ"حرب استنزاف". وفي عام 1803م، وقعت الحادثةُ الأهم: إذ استفزّت بضعُ قطعٍ بحرية صغيرة من طرابلس الفرقاطةَ "فيلادلفيا"، فلاحقتهم قرب السواحل. وفي مناورة بحرية صعبة، استدرجت السفن الصغيرةُ "فيلادلفيا" إلى منطقةٍ ضحلة مليئة بالشعاب المرجانية، التي لم تكن تظهر على الخرائط الأمريكية آنذاك. فجنحت البارجة في الماء بلا منقذ، فانقضّ عليها جنود طرابلس، فغنموا السفينة بما عليها من متاعٍ وأسلحة، وأسروا طاقمها بالكامل من قائد السفينة إلى العمّال، وكان عددهم 300 أسير.

كانت تلك الخسارة كارثة بكل المقاييس للبحرية الأمريكية. فلم تكن خسارة أهم القطع البحرية وحدَها محلّ الأزمة، ولا أسر هذا العدد الكبير من الجنود، بل تمكين العدو من امتلاك تلك السفينة واستخدامها ضدهم. مما دفع القوات الأمريكية بقيادة ستيفن دكاتور إلى القيام بأكثر العمليات البحرية جرأة آنذاك. حيث استخدم إحدى السفن الصغيرة المغتنَمة من أسطول طرابلس، وتسلّل متنكرًا إلى سواحلها، ونجح في اقتحام السفينة "فيلادلفيا" وأضرم فيها النار وفلّ هاربًا.

حاولت البحرية الأمريكية كثيرًا تحرير الأسرى، ولكن المحاولات البحرية باءت بالفشل. ولتتذكر معي يا صديقي هذه النقطة حتى نهاية المقال أيضًا. إذ اتضح أن التدخل البري والتآمر هما الحل. فتحالفت مع الوالي المخلوع لطرابلس أحمد القرمانلي، الأخ الأكبر للوالي الحالي يوسف القرمانلي، وقامت مع بعض المرتزقة بحملة برية على مدينة درنة شرقي طرابلس في أبريل من عام 1805م، واستطاعت احتلالها. 

إلا أن هذا النصر المزعوم لم يساعد في تحرير الأسرى. وبعد ضغوط عسكرية وسياسية وحرب استنزاف استمرت أربع سنوات، لجأ الطرفان إلى التفاوض. وكان سلاح والي طرابلس الأسرى والتمركز على الأرض، وسلاح الأمريكيين التفوق التقني العسكري، والحصار البحري، والتهديد البري الشرقي.

وبعد جولاتٍ من التفاوض، اتفق الطرفان على مبادئ تمهيدية في 3 يونيو 1805م، تقضي بأن ينسحب الأمريكيون بكامل قواتهم من طرابلس، ويدفعون 60,000 دولار نقدًا فدية لتحرير أسراهم. وتذكر كثيرٌ من المصادر أنّ تلك الاتفاقية لم تتعرض لموضوع الجزية، سواء بالإلغاء أو الإثبات.

وانتهت الحرب التي سُمِّيت فيما بعد "الحرب البربرية الأولى"، والتي تُعَدّ أولى الحروب البحرية الأمريكية خارج الحدود. ولهذا تعتبرها "المارينز" من المعارك الفارقة في تاريخها، وجعلت حرب طرابلس تلك تتصدّر نشيد المارينز حتى يومنا هذا.

هكذا نكون قد سردنا تفاصيل الحرب الأمريكية الأولى المنسية – كما يحبون أن يسمّوها – ولكن تبقى نقطتان غاية في الأهمية أشرنا إليهما أثناء السرد:

أولاهما: حينما قرّر يوسف القرمانلي بلا سندٍ أو مبرّر الانقلابَ على "معاهدة السلام والصداقة"، ومطالبة أمريكا بمضاعفة الجزية أو الضريبة، مما أشعل شرارة تلك الحرب. ألا يذكرك هذا التهور يا صديقي بمطالبات الرئيس الأمريكي الحالي بمضاعفة الضرائب التجارية على كثير من الدول الكبيرة كالصين والهند وكندا؟ فهل يصبح اليوم كالبارحة، ويتسبّب الطمع والجشع، إضافةً إلى الغطرسة والرعونة، في إشعال فتيل حربٍ لن تتشابه بأي حال مع حرب البربر الأولى؟

أما النقطة الثانية فهي حكاية الأسرى. فعلى الرغم من التفوق العسكري الأمريكي آنذاك برًّا وبحرًا، ناهيك عن المساعدة الكبيرة من حلفاء غربيين مثل السويد، لم تستطع الآلة العسكرية تلك تحرير أسيرٍ أمريكي واحد. فهل يعتبِر نتنياهو اليوم من درس جِفْرْسُن بالأمس البعيد، ويدرك أنّ الدمار والجوع لن يكونا قادرين أبدًا على إعادة أسير واحد رغمًا عن إرادة المقاومة؟

وتبقى المقاربة الأصعب: كلّما أبحرنا في أعماق التاريخ، نجد الفصول والصفحات تكاد تتكرر في الحاضر بالتفاصيل نفسها. والأعجب أنّ البشر دومًا لا يعتبرون من تجارب الماضي، بل يعيدون إفراز أخطائه بشكلٍ يكاد يكون أغبى وأفدح. فلماذا يُصرّ الإنسان على عدم الاعتبار من ماضيه، ويبقى ليدور دومًا في حلقات "خارج حدود الأدب"؟
 

search