الأربعاء، 03 سبتمبر 2025

02:25 ص

الأديب العالمي نجيب محفوظ.. ما زلنا نحاصره بعد الموت

في ذكرى رحيل نجيب محفوظ، لا يكفي أن نتذكر أنه حصل على جائزة نوبل، ولا يكفي أن نقول إنه كتب "الثلاثية" و"زقاق المدق" و"اللص والكلاب"، ولا يكفي أن نردد أنه وضع مصر على خريطة الأدب العالمي، فالحقيقة أن نجيب محفوظ لم يكن مجرد كاتب عظيم، بل كان نوعاً من الضمير، ضمير مدينة كاملة، وذاكرة أمة بأكملها.

كل من قرأ لمحفوظ يعرف هذا؛ فمحفوظ لم يكتب روايات فقط. محفوظ كتب الناس؛ كتب الفرح والخذلان؛ كتب الأحلام المعلقة على مقهى في الحسين، والخيبات التي تخرج من باب ضيق في حارة سكنها البؤس؛ كتب عن السلطة كما رآها في تحوّلاتها وتعقيداتها، وكتب عن الناس كما عاشهم؛ أحياء، متشبثين بالحياة رغم ما يحيط بهم من صعاب.

لكن مصر ـ كعادتها مع كبارهاـ لم تعرف أبداً كيف تحتفي بابنها الأعظم. محفوظ عاش سنوات طويلة يتعرض للتجاهل في بلده، حتى نال نوبل فجأة، فانتبهوا إليه. ثم بعد الرحيل، جاء الدور على التمثال الذي يجسد ذكراه.

تمثال الفنان الكبير سيد عبده سليم، لم يكن مجرد قطعة برونز، بل كان رؤية، فكرة، التمثال صُمم بحجم إنسان طبيعي، ليقف على كورنيش النيل أمام بيت محفوظ، على الرصيف الذي كان يعبره يومياً في رحلته إلى عمله. مشهد بسيط لكنه شديد البلاغة أن يجد المارة نجيب محفوظ ماشي جنبهم، كما كان يفعل دائماً، فيلتقطون الصور بجواره وكأن الزمن لم يتحرك.

لكن المسؤول ـ وكالعادة ـ قرر أن يعرف أكثر من الفنان فأخذ التمثال، ووضعه في ميدان سفينكس. ميدان واسع، قاعدة عالية، وكتلة صغيرة غريبة عن المكان. هكذا تحولت الرؤية الإنسانية إلى مشهد بلا روح، وكأنك نقلت رجلاً من بيته إلى صحراء، ثم قلت له: ابتسم.

الظلم لم يقف عند ذلك. جاء الظلم الثاني؛ لوحة إعلانات ضخمة، قبيحة، تخنق التمثال من كل اتجاه. كأنما أصروا أن يطمسوا صورة محفوظ، حتى وهو برونز لا يتكلم. الأديب الذي كتب عن الحرية والكرامة، أصبح محاصراً بلوحات تبيع سلع استهلاكية لا تساوي جملة واحدة من رواياته.
هل هذا يليق بنجيب محفوظ؟ أديب مصر والعرب والعالم؟ الرجل الذي علّمنا أن الكتابة يمكن أن تكون وطناً؟

المسألة ليست تمثالًا فقط. المسألة أننا ما زلنا نصرّ على اغتيال رموزنا، حياً وميتاً. نرفعهم إلى السماء يوماً، ثم نلقي بهم في العتمة في اليوم التالي. نحتفل بذكراهم بالكلام، بينما تنام أعمالهم في الأرفف المغبرة.

في ذكرى رحيله، لا نحتاج إلى ندب محفوظ. بل نحتاج إلى إعادة الاعتبار له. إعادة التمثال إلى مكانه الذي صُمم لأجله، على كورنيش النيل، ليس مجرد تصحيح خطأ إداري. بل هو تصحيح نظرتنا كلها إلى معنى "التكريم".

التكريم ليس لوحة إعلانات. التكريم ليس حفلة خطابية. التكريم هو أن يرى الناس نجيب محفوظ كما كان: إنساناً من لحم ودم، يمشي بجوارهم، ويتأمل النيل، ويكتب عنه.
هذا نداء إلى وزارة الثقافة، إلى التنسيق الحضاري، إلى محافظة الجيزة، إلى كل مسؤول يهمه الأمر؛ أنقذوا نجيب محفوظ من هذا المصير البائس؛ ضعوه حيث يجب أن يكون؛ على الرصيف الذي خطاه يومياً، بين الناس الذين كتب عنهم، بجوار النيل الذي ألهمه.

لأن محفوظ لم يكن يوماً مجرد كاتب، محفوظ كان مرآة لنا جميعاً، وإذا كانت الأمم تُعرف بكيفية تعاملها مع مبدعيها، فربما آن الأوان أن نعامل محفوظ بما يليق به، على الأقل هذه المرة.
 

search