الجمعة، 26 سبتمبر 2025

02:16 م

الاعتراف بفلسطين.. بين ورق السياسة ودماء غزة

لم يكن أحد ليتصور قبل سنوات قليلة أن نقرأ في الأخبار أن فرنسا وبريطانيا وبلجيكا، ومعها دول أوروبية أخرى، قررت الاعتراف بدولة فلسطين. خبر كهذا كان يبدو ضرباً من الخيال السياسي، أو مجرد شعار يردده المتضامنون في الشوارع. 

لكن السياسة، كما يقول التاريخ، تُعرف لحظات الانعطاف حين تفرض الحقائق على الأرض نفسها على الطاولة الدولية. واليوم، يأتي الاعتراف الأوروبي في لحظة فارقة، ليس فقط في مسار القضية الفلسطينية، بل في ضوء ما تشهده غزة من إبادة جماعية استمرت لعامين متواصلين، حولت القطاع إلى مقبرة جماعية وفضحت ازدواجية المعايير في النظام الدولي.

على مدار عامين كاملين، مارست إسرائيل ما لا يمكن وصفه إلا بـ "العربدة". قصف متواصل لمناطق سكنية مكتظة، تدمير للبنية التحتية المدنية، حصار شامل يحرم الناس من الغذاء والدواء، واستهداف ممنهج للمستشفيات والمدارس والمخيمات. 

جرائم تُرتكب أمام أعين العالم كله، عبر شاشات البث المباشر وصور الأقمار الصناعية، دون أن يرفّ جفن لمراكز القوة الدولية. لم تعد القضية مجرد نزاع سياسي على الأرض، بل تحولت إلى اختبار إنساني وأخلاقي لمجمل النظام الدولي، الذي وقف عاجزاً أو متواطئاً أمام جريمة إبادة جماعية واضحة المعالم.

في هذا المشهد الدموي، جاء الاعتراف الأوروبي بدولة فلسطين؛ فالبعض اعتبره صحوة ضمير متأخرة، والبعض الآخر رأى فيه محاولة لإنقاذ صورة أوروبا أمام شعوبها التي خرجت بالملايين في مظاهرات "أوقفوا الحرب على غزة". 

والحقيقة أن الأمر يحمل كل هذه الأبعاد معاً؛ فهو اعتراف متأخر، نعم، لكنه مهم لأنه يسحب ورقة من يد إسرائيل. فالاحتلال طالما قدّم نفسه للعالم باعتباره "خلافاً حدودياً" أو "نزاعاً أمنياً"، بينما يضع الاعتراف الأوروبي الأمور في نصابها؛ فهناك دولة قائمة تستحق الحياة والاعتراف، وهناك احتلال يرفض الانصياع للقانون الدولي ويصر على فرض الأمر الواقع بالقوة.

لكن الاعتراف، مهما كانت رمزيته، لا يوقف طائرات الـ "إف–16"، ولا يمنع دبابة من اجتياح مخيم مكتظ بالمدنيين. ما لم يتحول الاعتراف إلى فعل سياسي ودبلوماسي واقتصادي، سيبقى حبراً على ورق. 

هنا يبرز جوهر المسألة؛ فالمطلوب أن يكون الاعتراف بداية لمسار، لا مجرد نهاية خطاب. مسار يتجسد في دعم فلسطين أمام محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية، حيث تُفتح ملفات الإبادة الجماعية والاستيطان. مسار يترجم إلى ضغوط اقتصادية فعلية، عبر فرض عقوبات على الاستيطان ووقف تصدير السلاح الذي يُستخدم في قتل المدنيين. مسار يتحول إلى سياسات عملية داخل الاتحاد الأوروبي، بحيث تصبح فلسطين طرفاً معترفاً به في جميع المؤسسات والمنتديات الدولية.
ومن هنا، فإن الاعتراف الأوروبي لا يمكن قراءته في عزلة عن الضغط الشعبي؛ فمنذ اندلاع الحرب على غزة، شهدت العواصم الأوروبية مظاهرات حاشدة لم تعرفها منذ عقود. ملايين خرجت إلى الشوارع ترفع الأعلام الفلسطينية وتطالب حكوماتها بوقف دعمها لإسرائيل. كان من المستحيل على باريس أو لندن أو بروكسل أن تتجاهل هذه الأصوات المتصاعدة. الاعتراف، إذن، لم يأتِ من فراغ، بل هو ثمرة ضغط الرأي العام، ودليل على أن الشعوب تستطيع أن تُحدث فارقاً حين تصر على موقفها.
لكن السؤال الأهم يظل: ماذا بعد؟

هل يكفي أن نضيف فلسطين إلى الخرائط الرسمية في وزارات الخارجية الأوروبية؟ أم أن المطلوب أن يتحول هذا الاعتراف إلى نقطة انطلاق لمعادلة جديدة في المنطقة؟ إسرائيل لم تتوقف عن عربدتها منذ الإعلان الأوروبي، بل كثّفت عملياتها في غزة كأنها تريد أن تقول للعالم: "اعترافكم لا يساوي شيئاً أمام قوتنا العسكرية". ولهذا، فإن المعركة الحقيقية تبدأ من هنا: معركة تحويل الاعتراف إلى قوة ضغط توقف شلال الدم.

بالنسبة للفلسطينيين، الاعتراف يمنحهم ورقة جديدة على طاولة التفاوض الدولي. لم يعد بإمكان إسرائيل أن تقول إن "الدولة الفلسطينية مجرد وهم"، بعد أن اعترفت بها عواصم كبرى. لكن مسؤولية القيادة الفلسطينية أكبر من مجرد الاحتفال الرمزي؛ المطلوب الآن هو استثمار هذه اللحظة التاريخية بفتح ملفات الإبادة أمام المحاكم الدولية، والضغط من أجل ترجمة الاعتراف إلى دعم ملموس في مؤسسات الأمم المتحدة، والعمل على بناء استراتيجية دبلوماسية جديدة تحوّل الاعترافات المتفرقة إلى كتلة حرجة تفرض نفسها.

أما على الجانب العربي، فإن الاكتفاء بالتصفيق للبيانات الأوروبية سيكون جريمة سياسية. العالم العربي بحاجة إلى تحرك دبلوماسي منسق يعزز هذه الخطوات ويستثمرها لوقف الحرب. إن بناء جبهة ضغط دولية ليس أمراً مستحيلاً، لكنه يتطلب أن تكون هناك إرادة عربية تتجاوز الخلافات والاعتبارات الضيقة، وتضع المصلحة الفلسطينية فوق الحسابات اللحظية.

ولعل الدرس الأبرز في كل هذا المشهد أن إسرائيل لا تخشى المقالات ولا الخطب، بل تخشى فقط العزلة. تخشى أن تجد نفسها محاصرة بالقرارات القضائية، محرومة من صفقات السلاح، فاقدة للغطاء السياسي الذي طالما حماها. إذا تحولت الاعترافات الأوروبية إلى بداية عزلة سياسية حقيقية، فإن موازين القوى ستبدأ في التغير. عندها فقط يمكن أن يتوقف النزيف في غزة، لا لأن إسرائيل اكتشفت فجأة فضائل القانون الدولي، بل لأنها وجدت أن كلفة استمرار الحرب باتت أعلى من كلفة التراجع.
في النهاية، الاعتراف الأوروبي بفلسطين ليس خاتمة المطاف، بل مجرد بداية طريق طويل؛ طريق يُمكن أن يقود إلى وقف الإبادة إذا استُثمر بشكل صحيح، ويمكن أن يضيع في بحر الكلام إذا اكتفينا بالاحتفاء به كمنجز رمزي. التاريخ لن يتذكر البيانات ولا التصريحات، بل سيتذكر ما إذا كان هذا الاعتراف قد ساهم في وقف المذبحة وإنقاذ حياة الأبرياء، أم بقي مجرد وثيقة مؤرشفة في أدراج وزارات الخارجية.
الكرة الآن ليست فقط في ملعب العواصم الأوروبية، بل في ملعبنا نحن أيضاً. فهل نكتفي بالتصفيق وننتظر أن يتحرك الآخرون، أم نلتقط اللحظة ونبني عليها جبهة سياسية وقانونية توقف شلال الدم؟ غزة لا تملك رفاهية الانتظار، وأطفالها الذين يواجهون الإبادة لا يطلبون أكثر من أن تتحول الكلمات إلى أفعال، وأن يجد العالم الشجاعة ليقول: كفى.

search