الجمعة، 14 نوفمبر 2025

06:54 م

امنحوا المتصابي فرصة أخرى للحاق بالحياة

الشيخوخة ليست نهاية الحياة، ولا فقدان الشريك أو انشغال العمل مبررًا لقطع شعلة المشاعر التي لا تنطفئ. هناك لحظات تأتي متأخرة، تمنح القلب فرصة ثانية ليحب ويُحب، ومع ذلك نجد من حولنا يراقب، يستهجن، ويستنكر، وكأن الحب أصبح حكرًا على مرحلة الشباب فقط، وكأن المتأخرين في العمر محرومون من تجربة المشاعر.

التصابي ليس خداعًا، ولا محاولة إخفاء الحقائق. إنه محاولة للحياة أن تتجدد في قلب اكتشف فجأة أنه ما زال قادرًا على الشغف، وأنه ما زال لديه رغبة في التواصل، والاعتناء، والابتسام لوجود آخر. 

قد تجد رجلاً كبير السن صبغ شعره، ارتدى ملابس جديدة، أو بدأ يتعلم هواية طالما حلم بها، وكل ذلك من أجل أن يشعر بالحياة مجددًا. وما يفعله ليس ترفًا فارغًا، بل إعلان صريح للذات: أنا لا زلت موجودًا، وأستحق أن أعيش وأن أحب.

مجتمعنا يصنع قيودًا على الحب بعد سن معين. يُنظر إلى الكبير في السن الذي يرغب في الحب الثاني باستنكار، وكأنه يخالف قاعدة غير مكتوبة تقول: “يكفي ما عشته من حياة”. وما نغفل عنه أن التجربة الجديدة ليست تهديدًا للآخرين، بل فرصة للنفس أن تشعر بالحياة بعد سنوات من الانصراف عن الذات. فالكثير عاش حياته ملتزمًا بالمسؤوليات، سواء تجاه الزوجة، الأسرة، أو العمل، وفجأة يجد أنه لم يمنح نفسه حقًا في المشاعر. وما نراه “تصابيًا” هو في الواقع تحرر من قيود سنوات من الإحباط أو الصمت عن الرغبات.

العديد من الأشخاص الذين يحصلون على فرصة ثانية للحب يصيبهم توتر غريب: خوف من حكم المجتمع، خوف من السخرية، خوف من التفسيرات الخاطئة. لذلك يظهر التصابي كقناع يحميهم من النقد، لكنه في الوقت نفسه وسيلة ليعيدوا ترتيب حياتهم. صبغ الشعر، تغيير الملابس، أو إعادة العناية بالمظهر هي رموز لتجدد الحياة، رموز لرفض الاستسلام للصورة النمطية: أن العمر يُحدّد ما يمكننا فعله أو الشعور به.

الأمر المثير للدهشة أن المجتمع كثيرًا ما يسخر من هذا التجدد، ويقلل من أهميته. يُقال: “كأنه أصبح طفلاً من جديد”، أو “يتصرف وكأنه شاب”. الاستهجان هذا يكشف عن خوف داخلي من مواجهة حقيقة بسيطة: الحب لا يعرف عمرًا. كل قلب قادر على الشغف قادر على الإبداع، وكل روح لم تمت داخليًا تستحق فرصة جديدة للحياة.

التصابي إذًا ليس تهورًا، بل مقاومة صامتة لما يفرضه المجتمع من قيود على المشاعر. إنه تذكير بأن الإنسان كائن حي بحاجة إلى التعبير عن ذاته، وأن فقدان الشريك أو الانشغال لا يعني فقدان القدرة على الحب. بل العكس، قد يكون قلب الشخص الأكبر سنًا أكثر استعدادًا لأن يعطي ويستقبل الحب بوعي، لأنه تعلم دروس الحياة، وأدرك قيمة اللحظات، وفهم عمق المشاعر.

في كثير من الأحيان، نجد أن التجربة الجديدة تجعل الشخص أكثر إشراقًا وحيوية. الابتسامة تصبح أوسع، النظرة أكثر دفئًا، والحياة أكثر طعمًا. ويبدأ الآخرون في ملاحظة هذا التحول، لكنه في المقابل يثير السخرية من قبل من لا يرون أن الحب والاهتمام الذاتي حق مشروع لكل إنسان مهما تقدم في العمر. المجتمع يخاف من التجربة الجديدة لأنه يفضّل القوالب القديمة، ولا يعرف كيف يستقبل تحرر المشاعر بعد سنوات طويلة من الركود.

الفرصة الثانية للحب ليست مجرد علاقة عابرة، بل هي إعادة اكتشاف الذات، فرصة للتوازن النفسي، ووسيلة لإعادة تأكيد أن الإنسان ليس مجرد مسؤوليات أو التزامات، بل كيان يحتاج لأن يشعر بالحياة. من يصنع لنفسه هذه الفرصة ليس أنانيًا، بل عاشقًا للحياة التي استمرت رغم فقدانه، وقادرًا على المشاركة فيها مع آخر.

علينا أن نتذكر أن الحب في أي عمر يحمل نفس القدرة على الإشراق والعمق. التجارب السابقة لا تلغي قدرة القلب على الحب من جديد، بل تمنحه حكمة. الشخص الذي أحب ثانية بعد فقد أو انشغال ليس أقل من أي عاشق شاب، بل أكثر قدرة على التقدير، وأكثر استعدادًا للعطاء.

لذلك، دعونا نتوقف عن استنكار أو الاستهجان. دعونا نمنح المتصابي فرصة، لأننا بذلك نمنح الحياة نفسها حقها في التجدد. دعونا نتفهم أن صبغ الشعر أو تغيير المظهر ليس سطحية، بل لغة حياة جديدة، إعلان بأن الإنسان لم يمت بعد وأن قلبه لا يزال نابضًا. من حق الكبير أن يُحب، ومن حقه أن يُحب بجرأة وصدق، ومن واجب المجتمع أن يقدّر هذه الجرأة بدل استنكارها.

العبرة ليست في المظهر، ولا في العمر، بل في الإصرار على أن نعيش. كل تجربة جديدة تمنح قلبًا فرصة للتعلم، كل ابتسامة مكتسبة حديثًا تعطي الحياة معنى إضافيًا. إننا عندما نرفض تصابي الكبار ونستهجن رغبتهم في الحب، نحن نرفض جزءًا من الإنسانية نفسها، نرفض الحق في أن يكون كل قلب حيًّا قادرًا على الشعور.

الحياة لا تُقاس بعدد السنوات، بل بعدد اللحظات التي نشعر فيها بالحياة. والمتصابي، الكبير في السن، يستحق أن يعيش كل لحظة، أن يحب ويُحب، أن يتألق وأن يتجدد. دعونا نحتفل به بدل أن ننتقده، دعونا نمنحه فرصة أخرى للحاق بالحياة، لأنها دائمًا تستحق من يُحسّن ويحتضن كل فرصة لها، مهما كان العمر.

اقتباس تحليلي:
علم النفس يوضح أن التجارب العاطفية بعد منتصف العمر ليست مجرد رفاهية، بل حاجة نفسية ضرورية لإعادة التوازن الشخصي، وإثبات الذات، واستمرار الإحساس بالإنجاز والرضا العاطفي. التصابي ليس ترفًا، بل استجابة طبيعية لرغبة القلب في أن يعيش، وحماية للذات من الركود والخوف الاجتماعي.

search