الثلاثاء، 09 ديسمبر 2025

06:00 م

قضية "سيدز".. التجارة بالألم وعدالة "الحقيقة"

على مدى الأيام الماضية، تحوّلت قضية مدرسة “سيدز” إلى حديث المجتمع المصري، بعد الكشف عن اتهامات خطيرة تمس أطفالاً في عمر لا يعرف سوى براءة اللعب وحديث الحروف الأولى. 

وبين صدمة أسر الضحايا، وقلق الرأي العام، وسرعة تداول المعلومات عبر المنصات الاجتماعية، أصبح التعامل مع القضية اختباراً حقيقياً لقيم العدالة ووعي المجتمع…

هذه القضية، كشفت حجمًا من الألم لا يستطيع أي سطر في الصحافة أن يصفه بدقة.

أن يكون الضحية طفلًا، فهذا وحده كفيل بإسكات أي نقاش نظري عن الحقوق، وعن براءة المتهمين، وعن شكل العدالة، لكن الحقيقة الأصعب هي أن أكثر ما يهدد العدالة، ليس فقط الجريمة المفترضة، بل من يحاول تحويل ألم الضحايا إلى مادة للانتقام، أو للبطولة الزائفة، أو للضجيج الإعلامي.

نعم، هناك أطفال. وهناك اتهامات خطيرة. لكن هناك أيضًا قانون، إذا سقط مرة، سقط على رؤوس الجميع، الضحية، والمتهم، والمجتمع.

وسط تفاصيل مؤلمة وملفات حساسة، خرج البعض ليقدم “روايات جاهزة” للجمهور، روايات تتحدث عن “شبكات دولية”، “جهات أجنبية”، أو اختراق للمدرسة لصالح أطراف غامضة، وأن ما حدث “جزء من مخطط أكبر”. 
هذه الروايات لم تُقدّم دليلًا، لكنها قدّمت مادة ساخنة لمنصات التواصل، وصُنعت منها قصة مناسبة لخيال الجمهور.

هذه النوعية من “البروباجندا السوداء”، بحسب ما أشار إليه بيان النيابة العامة، كانت سببًا في استجواب محامٍ لأحد الضحايا، للتحقيق في كيفية تداول معلومات غير صحيحة حول القضية، وتحديدًا ما يتعلق بعلاقة الواقعة بجهات أجنبية أو “الدارك ويب”، وهي مزاعم نفتها النيابة صراحة وأكدت أنها تثير الذعر وتضلل الرأي العام، واعتبرت ذلك جزءًا من “قضية نشر أخبار كاذبة” يؤثر على التحقيقات القانونية.

هنا ليست المشكلة في “الخطأ”، بل في نية التضخيم: تحويل قضية حساسة تخص أطفالًا، إلى مادة مؤامراتية قد تجعل الجميع يفقد التركيز على الجرح الحقيقي.

ضحايا مرتين

في هذه الحالة، الضحية يصبح ضحية مرتين، مرة من الجريمة ذاتها إن ثبتت، ومرة من المجتمع الذي يحول قصته إلى “ترند” ومادة لتأكيد روايات مسبقة.

أخطر ما يمكن أن يحدث للطفل  في هذه المرحلة أن تُختزل معاناته داخل معركة لا تخصه، معركة سياسية، أو صراع رأي عام، أو تصفية حسابات بين نقابات، أو احتفالات غاضبة بالعدالة قبل أن تبدأ.

ما يمكن الجزم به أن الضحايا في هذه المرحلة ليسوا في حاجة إلى ضجيج، وإنما يحتاجون إلى فحص طبي، دعم نفسي، تحقيق عادل، وإغلاق دائرة الألم حولهم حتى لا تتحول الصدمة إلى تاريخ طويل.

حق المتهمين ليس رفاهية

في المقابل، يجب أن ندرك أن العدالة لا تُختبر حين نحاكم البريء، بل حين نحاكم المتهم.

إذا كانت الأدلة واضحة، وتم تقديمها وفق القانون، فسيصدر القضاء حكمه دون أن يحتاج إلى “صوت الجمهور”. لكن إذا سمحنا للشائعة أن تسبق التحقيق، فسيصبح الطريق مفتوحًا لأي شخص لإدانة أي شخص، لأن القضية حساسة.

يمكن أن يكون هناك مجرمون بلا رحمة، لكن يمكن أن يكون هناك أيضًا أبرياء وُضعوا في عين العاصفة، والفرق بين الاثنين تصنعه المحاكمة العادلة، لا “لايف” على فيسبوك.

العدالة تحتاج صمتًا مسؤولًا

الهدوء في القضايا الكبرى ليس جبنًـا، بل شجاعة بأن نعلنها صراحة، نريد حقيقة كاملة، لا رواية جاهزة. الشجاعة هي أن نترك النيابة تجمع الأدلة، وأن نثق أن الطب الشرعي ليس برنامجًا ترفيهيًا، وأن نعلم أن القانون أقوى من هاشتاغ.

حين تستدعي النيابة محاميًا للاستجواب، فهي تقول للمجتمع، أن العدالة لا تقبل وصاية مواقع التواصل، والرأي العام ليس محكمة،  والدموع ليست دليلًا، والغضب لا يصنع حكمًا، وأن المجتمع الذي يريد حماية أطفاله عليه أن يميز بين الحق والرغبة في الانتقام.

هل هناك منظومة تحتاج للمراجعة؟

نعم، لكن مراجعة المنظومة لا تعني خلق “أسطورة” كاملة حول مدرسة واحدة، لأن القضية أكبر من اسم المدرسة، بل يجب أن يكون هناك نقاش جاد حول كيفية توظيف العمال في المدارس، وما هو معيار الفحص الجنائي، وهل هناك كاميرات تغطي كل المساحات، وهل يوجد تدريب للعاملين على حماية الطفل، وهل هناك خط واضح للإبلاغ، وما دور وزارة التعليم في التفتيش والمراجعة؟

هذا النقاش هو النقاش الحقيقي، أما حديث “منصات التواصل الاجتماعي” فهو هروب من الحقيقة إلى الحكاية!

العدالة التي تحمي الطفل

أحلم بمجتمع لا يفرح بالشائعة لأنها مثيرة؛ بل يغضب منها لأنها تهدد الحقيقة، وأؤمن بقضاء يُحاسب المعتدي مهما كانت مكانته، ويحمي المتهم من الظلم مهما كان نوع الاتهام.

في “سيدز” الألم واضح، لكن الحل ليس في الصراخ، بل في تطبيق القانون.
العدالة ليست ترفًا، لكنها هي الحبل الوحيد الذي يمسك الضحية والمتهم معًا من جانب واحد، وهو الحقيقة.

search