الأربعاء، 24 ديسمبر 2025

03:06 م

غياب القدوة الأكاديمية.. حين انطفأ النور في محراب الجامعة

هكذا فقدت الأجيال بوصلتها، حيث لم تعرف الجامعات أزمة أخطر من تلك التي تعيشها اليوم: أزمة غياب القدوة الأكاديمية، إنها ليست أزمة مناهج ولا إمكانات، بل أزمة ضمير علمي، وانطفاء جذوة كانت تنير العقول وتغرس في النفوس معنى العلم والمسؤولية. فقدت الجامعة - رويدًا رويدًا- هيبتها، لا لأنها تتقدم أو تتراجع في التصنيفات العالمية، بل لأنها فقدت في داخلها الإنسان العالم الذي كان يعلِم قبل أن يتكلم، ويقود بالمثال قبل التعليم.

في الماضي، لم يكن العالم يقاس بما يملك من شهادات أو ألقاب، بل بما يقدمه من معرفة وبما يزرعه من أثر، كان العلماء يرحلون لأشهر وسنوات طلبا للحقيقة، لا يخشون تعب السفر ولا مشقة الطريق، لأنهم أدركوا أن الكلمة في العلم ليست مجرد حبر على ورق، بل مسؤولية أمام الله والتاريخ،

في التراث العربي والإسلامي، نقرأ أن أحد العلماء رحل من بغداد إلى المدينة ليسمع حديثا واحدا من راو ثقة، بينما آخر عبر البحر ليقارن روايتين في كتاب نادر، لم تكن الغاية شهرة ولا ترقية، بل التثبت، واليقين، وخدمة الحقيقة، ذلك الجيل من العلماء كان يرى في الدقة العلمية عبادة، وفي الأمانة الفكرية فريضة، وفي البحث الصادق طريقا للخلود، كانت الجامعة آنذاك أشبه بمحراب للعلماء، لا تفتح أبوابها إلا لمن آمن أن العلم رسالة لا تجارة، ومسؤولية لا وسيلة.

أما اليوم، فقد اختلت المعايير وتغيرت المفاهيم، صار كثير من الأساتذة يتعاملون مع العلم كوظيفة يومية، لا كرسالة ممتدة، طغت الشكليات على الجوهر، والكم على الكيف، والمظاهر على المضمون،

صار بعض الأكاديميين يقيسون نجاحهم بعدد المؤتمرات التي حضروها لا بعدد الأفكار التي أثروها، وبعدد الأبحاث المنشورة لا بقيمتها العلمية، غابت النزاهة في بعض جوانب البحث العلمي، وساد النقل والاقتباس دون تدقيق أو مراجعة، حتى تحولت بعض الأطروحات إلى نسخ متكررة بلا روح ولا ابتكار،
ولعل أخطر ما في ذلك كله هو أن الأجيال الجديدة لم تعد تجد من تتعلم منه معنى القدوة الأكاديمية الحقيقية، تلك التي تُلهم الطالب وتمنحه الإيمان بأن العلم طريق للتحرر، لا وسيلة للمنفعة.

إن غياب القدوة الأكاديمية لا يعني فقط فقدان نموذج يحتذى به، بل يعني ضياع “الروح” التي تبث الحياة في جسد الجامعة، الطالب اليوم يفتقد المعلم الذي يغرس فيه حب المعرفة لا الخوف من الامتحان، ويحتاج الأستاذ الذي يربيه على النقد والتفكير لا على الحفظ والتلقين،
وحين يغيب هذا النموذج، يصبح التعليم ناقصا مهما بلغت حداثة المناهج أو جودة البنية التحتية، لأن القدوة هي التي تصنع الإنسان، والإنسان هو الذي يصنع الحضارة.

ورغم هذا المشهد القاتم، ما زالت هناك نماذج نادرة تعيد الأمل وتؤكد أن جذوة العلم لم تنطفئ تماما، ولعلي شخصيا أرى في كل من الأستاذ الدكتور سامي السيد أستاذ الاقتصاد بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، والأستاذ الدكتور محمود السعيد، نائب رئيس جامعة القاهرة للدراسات العليا من هذه القامات التي تعيد تعريف معنى الأستاذ الجامعي الحقيقي،

لقد رأيت فيه العالم الذي لا يساوم على دقة المعلومة، ولا يقبل بأنصاف الحقائق، علماء جعلوا من البحث العلمي عبادة يومية، لا عملا إداريا، يعيشون للعلم، ويمنحون طلابهم من وقتهم وعقلهم دون حساب، في حضرتهم أشعر أنني أمام علماء لا يدرسوا فحسب، بل يربون جيلا من الباحثين الذين يفهمون أن العلم لا يؤخذ من صفحات، بل من مواقف وسلوك وأمانة فكرية، نموذجًا لما ينبغي أن يكون عليه الأستاذ الجامعي: تواضع في المقام، وعظمة في الفكر، وإخلاص في الأداء، وغيرة على الحقيقة.
إن مثل هذه الشخصيات هي التي تحفظ للجامعة معناها، وللعلم مكانته، فالأستاذ الجامعي الذي يعيش للبحث لا من أجله، ويكرس وقته لتطوير طلابه لا لزيادة سيرته الذاتية، هو الذي يبني الأوطان من داخل القاعات لا من على المنابر،

لذلك، فإن إعادة القدوة الأكاديمية ليست ترفًا، بل ضرورة وجودية إن أردنا أن نعيد للجامعة المصرية والعربية مكانتها التاريخية. يجب أن نعيد النظر في معايير التقييم والترقية، وأن نعيد الاحترام لمن يستحقه بالعلم لا باللقب، يجب أن يكرم من يكتب بحثا حقيقيا أكثر ممن يوقّع عقودا شكلية، وأن يرفع شأن من يدرس بفكر حي أكثر ممن يملأ الشاشات بكلمات جوفاء.
على الجامعة أن تستعيد أخلاقها قبل أن تطالب بمكانتها، وأن تعيد الاعتبار للضمير العلمي الذي يحرك الباحث نحو الحقيقة لا نحو المنصب، ولا يمكن تحقيق ذلك إلا إذا أعيد تعريف معنى الأستاذ الجامعي من جديد: ليس موظفا، بل مفكرا؛ ليس ناقلا للمعلومات، بل صانعا للعقول؛ ليس متحدثا، بل شاهدا على رسالة العلم في وجه الجهل والانحراف، لقد آن الأوان لأن نعيد للجامعة روحها التي تاهت وسط زحام المصالح. يجب أن نستعيد تلك الرهبة التي كان يشعر بها الطالب حين يجلس أمام أستاذه العالم، لا خوفًا بل احترامًا وإعجابًا. فالعلم بلا قدوة كالسماء بلا نجوم، والجامعة بلا علماء صادقين كجسد بلا قلب.
حين تعود القدوة الأكاديمية، ستعود القاعات نابضة بالحياة، وستعود المكتبات عامرة بالباحثين، وستستعيد الجامعة دورها كمحراب للعلماء، لا ساحة للبيروقراطية، حينها فقط سيعود للعلم بريقه، وللأستاذ هيبته، وللطالب شغفه، وللوطن مكانته بين الأمم، فالقدوة ليست اسما نعلقه على الجدار، بل ضميرا يُضيء الطريق، وإذا انطفأ ذلك الضمير، ضاع العلم، وضاعت معه الأمة.
 

search