الخميس، 29 مايو 2025

02:16 ص

قانون الانتخابات.. متى تنتصر القواعد على الاستثناء؟

في بلادٍ ينام فيها الناس على هموم المعيشة، ويصحو فيها الحلم كل يوم على واقعٍ أكثر صلابة، تبقى السياسة هي الفن المنسيّ، والسؤال المؤجل إلى أجلٍ غير مُسمّى. 

نتحدث كثيرًا عن الخبز، عن الأسعار، عن الأمان... لكننا قليلًا ما نتحدث عن أصل اللعبة: كيف يُدار القرار؟ ومن يُمسك بالمقود؟ الانتخابات، في أبسط تعريف، هي لحظة تعبير جماعي عن الأمل. أن تُصوّت، يعني أنك ما زلت تؤمن بأن لصوتك صدى، ولرأيك وزن، وللغد معنى. ولهذا، لا يكون القانون الذي ينظم هذه اللحظة مجرد مادة تشريعية، بل وثيقة نوايا بين الدولة ومواطنيها. 

وحين تظهر مسودة جديدة لقانون الانتخابات، يكون من حقنا أن نطرح السؤال: هل هذا القانون يُبنى على مبدأ الشراكة، أم على منطق الإدارة؟ وهل يسعى لخلق تمثيل حقيقي، أم لإنتاج مشهد منضبط سلفًا لا يُقلق أحدًا ولا يُغير شيئًا؟ فعندما تقرأ خبرًا عن موافقة اللجنة التشريعية بمجلس النواب على مسودة قانون الانتخابات، قد يبدو لك الأمر طبيعيًا في حياة أي دولة. 

فالتشريع عملية دورية، والقوانين تُعدّل وتُراجع، كما تتغير الفصول. لكن حين تتوقف أمام التفاصيل، تجد نفسك أمام سؤال أكثر عمقًا؛ هل نعيد صياغة القوانين لأننا نُحسن البناء، أم لأننا لم نحسن التأسيس؟ بعض القوانين تُصاغ لتفتح الأبواب، وبعضها يُكتب بإحكام لغلق النوافذ، والقانون الانتخابي في كل ديمقراطية ليس مجرد ورقة تنظيمية، بل هو العمود الفقري للعملية السياسية كلها. هو الذي يقرر؛ من يدخل السباق؟ من يملك فرصة حقيقية؟ من يُمثل؟ ومن يُستثنى؟ 

المسودة الأخيرة - كما تسربت بعض بنودها - تُعيد ترتيب مقاعد البرلمان، وتُعدل نسب النظام الفردي والقوائم، وتُشدد على معايير الترشح، وربما تُضيق على المستقلين أو القوى الناشئة. وكل ذلك يُطرح داخل اللجان، في هدوء بالغ، يليق بمناقشات لا تُريد أن تزعج أحدًا. وليس في ذلك عيب بالضرورة. فالقوانين يجب أن تُراجع، وأن تُضبط بما يلائم المتغيرات. 

لكن الحذر كل الحذر حين تصبح القوانين أداة لتقليص المنافسة بدل توسيعها، ولإعادة تدوير النخب بدل تجديدها. نحن بحاجة إلى قانون يُطمئن الشارع لا أن يُحكم إغلاقه، قانون يُشجع الناس على المشاركة لا أن يُثقل عليهم بالشروط. قانون يُعيد إلى البرلمان هيبته كصوت الشعب، لا أن يُكرس صورته كمشهد مغلق محجوز المقاعد. 

المُلفت في نقاش القوانين السياسية عندنا أنها غالبًا ما تُدار بمنطق تقني، لا سياسي. يتحدث البعض عن "عدد المقاعد"، و"النسب المثلى"، و"الضوابط"، لكنهم ينسون أن كل رقم هو في الحقيقة وجه إنسان، ومواطن له حق التمثيل، وصوت يجب أن يُسمع. 

ثمّة مفارقة تفرض نفسها؛ كلما ازدادت دقة الصياغة، قلّ الحماس العام. وكلما زادت المواد القانونية، تراجعت نسب المشاركة. كأننا نكتب قوانين بليغة، لكنها لا تتحدث لغة الناس. 

والمسؤولية هنا لا تقع على اللجنة التشريعية وحدها، بل على الجميع. على الأحزاب التي تغيب عن النقاش العام، وعلى الإعلام الذي لا يُفسح مساحة للحوار الحقيقي لمناقشة القانون، وعلى المجتمع المدني الذي لم يُدعَ من الأصل ليكون طرفًا في رسم الطريق. 

أما المواطن، فله أن يتساءل: هل هذه المسودة كُتبت من أجلي، أم من أجل توازنات لا أفهمها؟ وهل ستحميني من التهميش، أم تُعيد تدويره في شكل جديد؟ لا أحد يرفض النظام، ولا يُجادل في ضرورة التنظيم. لكننا بحاجة لقانون يطمئن الناس إلى أن إرادتهم محترمة، وأن خياراتهم لا تُختصر في نشرة أخبار، أو حملة انتخابية موسمية. 

إذا أردنا انتخابات حقيقية، فعلينا أن نبدأ من احترام الأسئلة قبل فرض الإجابات، وأن نعيد للسياسة معناها كمجال للمشاركة، لا كمباراة محسومة النتائج. قانون الانتخابات يجب أن يكون الجسر لا الحاجز، الوعد لا الشرط، البداية لا النهاية. وفي كل ذلك، لا نطلب المستحيل... فقط، أن تنتصر القواعد على الاستثناء.

search