الأربعاء، 20 أغسطس 2025

01:22 م

أوهام إسرائيل الكبرى

مرة أخرى، خرج رئيس وزراء الاحتلال ليبشّرنا بـ "إسرائيل الكبرى"، نعم، نفس النغمة المشروخة التي حفظناها منذ أيام "ؤ" و"الدولة التي لا تُقهر". يبدو أن الرجل لم يقرأ التاريخ أو قرأه بالمقلوب. إسرائيل الكبرى؟! يا سادة، نحن أمام دولة لا تستطيع أن تخرج من غزة إلا والدم يسيل من أنفها السياسي، ولا تجرؤ على مواجهة حزب الله إلا إذا اصطحبت معها البنتاجون والأقمار الصناعية وحاملة الطائرات "جيرالد فورد". ثم يقولون لك: "إسرائيل الكبرى من البحر إلى النهر". والله لو لم تكن مأساة لكانت نكتة.
إسرائيل اليوم لا تعيش إلا على الدعم الأمريكي؛ السلاح من واشنطن، المال من دافعي الضرائب في كاليفورنيا، والغطاء السياسي من مجلس الأمن الذي تحوّل إلى مكتب خدمات تابع لوزارة الخارجية الأمريكية. بدون هذه الأجهزة، إسرائيل ليست "كبرى" ولا "صغرى" حتى، بل "كرتونية" تعيش على أنابيب الأوكسجين الدولية.

لكن نتنياهو يبيع لشعبه الوهم ذاته الذي باعه موسوليني للإيطاليين عن "روما العظمى"، وانتهى الرجل معلقاً من قدميه في ميلانو. الفارق أن موسوليني كان عنده مسرحيات وفرق أوبرا يوزّع بها الدعاية. أما نتنياهو فعنده فقط ماكينة إعلام أمريكية تبيع الأكاذيب بجدية مطلقة.

إذا كانت إسرائيل "كبرى" فعلاً، لماذا لم تستطع القضاء على حماس بعد عشرين شهر من تدمير كل شيء في غزة؛ البشر والحجر وحتى أشجار الزيتون؟ لماذا تحوّل الجيش الذي يصفونه بـ"الأكثر أخلاقية في العالم" إلى مجرد حفّار قبور جماعي لعائلات كاملة؟ لماذا صار القادة العسكريون الإسرائيليون يظهرون في الإعلام وهم يشرحون كيف "انتصروا" في معركة لم ينتصروا فيها؟

الحقيقة أن غزة الصغيرة حوّلت إسرائيل "الكبرى" إلى دولة تلهث وراء هدنة مكتوبة على ورق الأمم المتحدة، تماماً مثل الطالب الذي يكتب "مش حاضر" في ورقة الامتحان ويرجو أن ينجح.

فالحديث عن إسرائيل الكبرى هو محاولة لتغطية مشروع واضح؛ تغيير الديموغرافيا في الضفة الغربية والقدس بالقوة. المستوطنات تتكاثر مثل الفطر، آخرها 3400 وحدة جديدة في القدس المحتلة. لكن ما لم يقله نتنياهو أن هذه المستوطنات تُبنى على رمال متحركة. مثل رجل يزرع شجرة على سطح بناية قديمة آيلة للسقوط، ويقول "هذه غابة".

على نتنياهو أن يعلم أن كل من صرخ يوماً بكلمة "كُبرى" انتهى في النهاية بـ "صغرى". هتلر مثلًا، حلم بألمانيا الكبرى، لكنه استيقظ ليجد نصف بلاده تحت سيطرة السوفيت ونصفها الآخر تحت الأمريكان. واليابان أيضًا حلمت بإمبراطورية عظمى، لكن ما كان بانتظارها لم يكن سوى بلد مدمر بالكامل، قبل أن تتحول لاحقاً إلى أمة تعشق الأنمي أكثر مما تهتم بالدبابات.

أما الاتحاد السوفيتي فقد صدّع العالم لعقود بشعارات "المعسكر الشرقي العتيد"، لكنه انتهى إلى مجرد أنابيب غاز تديرها شركات خاصة، بعدما تفكك إلى قطع متناثرة. واليوم، تعيد إسرائيل نفس "المسرحية"، فقط بلغة عبرية وبإخراج أمريكي.

دعك من الشعارات؛ فـ"إسرائيل الكبرى" ليست سوى ستار باهت يخفي وراءه واقعاً شديد الابتذال، فمنذ السابع من أكتوبر، تتصرف إسرائيل كأنها مراهق طائش يمسك بسلاح في شارع ضيق، يطلق النار في كل اتجاه، يقتحم سوريا، يزيد المستوطنات، يحاول تغيير الواقع الديموغرافي في الضفة، ويريد من العالم أن يصفق له لأنه "يحارب الإرهاب"، على حد وصفه.

غير أن المراهق الذي يطلق النار في كل اتجاه لا يُسجَّل في كتب التاريخ كـ "بطل قومي"، بل يُذكر اسمه في محاضر الشرطة وتقارير الطب الشرعي.

على الإسرائيليين أن يدركوا إن إسرائيل الكبرى موجودة فقط في أحلام نتنياهو وخطابات الكنيست، مثلها مثل أحلام فرعون حين قال "أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي؟"، ثم انتهى غارقاً في البحر. الفارق الوحيد أن نتنياهو لم يتعلم من دروس التاريخ، لأنه مشغول في ترتيب صفقات الهروب من السجن بعد انتهاء ولايته.

وفي النهاية، إسرائيل الكبرى ليست مشروعاً سياسياً، بل وهم جماعي. والذين يصدقونه يشبهون من يشتري تذكرة سينما لفيلم قديم ويظن أنه العرض الأول.

search