الثلاثاء، 16 سبتمبر 2025

05:42 ص

القوامة في زمن المرأة المستقلة.. هل أنتِ فعلا خدامة؟

منذ قرونٍ طويلة ارتبط مفهوم القوامة في أذهان الناس بمعادلة جاهزة: الرجل هو المسؤول الأول، والمرأة تابعة له، تأتمر بأمره وتطيعه طاعةً شبه عمياء. كُرّست هذه الصورة في الثقافة الشعبية حتى باتت جزءًا من الخطاب اليومي، وكأنها قانون لا يقبل الجدل. 

لكننا اليوم نعيش زمنًا مغايرًا، زمن المرأة المستقلة التي تعمل، وتكسب، وتشارك، وتُدير شؤون حياتها بوعي ومسؤولية. هنا يبرز السؤال الصادم: هل القوامة تعني أن تتحول المرأة إلى "خدّامة" في بيتها، حتى وإن كانت مساهمة في كل تفاصيل الحياة؟

القوامة في أصلها القرآني ليست استبدادًا ولا تسلّطًا، بل تكليف بالمسؤولية، وحماية، ورعاية. لكنها تحوّلت عبر الموروث الثقافي إلى أداةٍ تُستخدم أحيانًا للهيمنة ولإسكات المرأة عن المطالبة بحقوقها.

وكأن الرجل بمجرد كونه "ذكرًا" يكتسب تلقائيًا سلطةً أبدية على المرأة، حتى وإن كان عاجزًا عن القيام بواجباته الأساسية. هذه القراءة الناقصة جعلت كثيرًا من النساء يشعرن أن القوامة ليست إلا قيدًا يُكبّل حياتهن، وأنها في الواقع مجرد "تذكرة عبور" للرجل إلى مقعد السيد في مقابل أن تبقى هي في مقعد الخادمة.

لكن هل الواقع اليوم يشبه الماضي؟

المرأة التي كانت قبل عقود أسيرة الجدران الأربعة، خرجت اليوم إلى الفضاء العام. تعمل طبيبة، مهندسة، إعلامية، معلمة، سياسية، بل وربما عائلًا رئيسيًا للأسرة. كثير من البيوت تُدار بجهد المرأة وعرقها، بينما بعض الرجال انسحبوا من ساحة المسؤولية واكتفوا بالاستناد إلى كلمة "القوامة" كذريعة لإبقاء اليد العليا لهم. هنا تصبح المفارقة قاسية: أي قوامة هذه التي تُرفع كشعار بينما التمويل، والتربية، وحتى القرارات الكبرى تتحملها المرأة؟

القوامة، إذا فُهمت بمعناها الإنساني والشرعي الصحيح، لا تعني أن تتحول المرأة إلى خادمة، بل أن يتقاسم الطرفان الأدوار بما يضمن الكرامة والعدالة. فالرجل الذي يُنفق ويؤمّن ويحمي لا يُلغِي عقل المرأة ولا دورها، والمرأة التي تعمل وتشارك لا تُسقط حق الرجل في أن يكون سندًا ومسؤولًا. إنها علاقة شراكة لا علاقة سيادة وعبودية. لكن المجتمع الذكوري، في كثير من مظاهره، اختار القراءة التي تمنحه الامتياز وتُلقي بالأعباء الثقيلة على كتف المرأة، فيتحول البيت إلى مؤسسة "خدمة مجانية" باسم الدين.

المرأة المستقلة لم تعد تصمت. صارت تسأل:
– لماذا يُنظر إليَّ كموظفة في الصباح، وخادمة في المساء؟
– لماذا تُستنزَف طاقتي في الخارج ثم أُحاسَب وكأني مقصّرة إن لم أقم بكل تفاصيل البيت وحدي؟
– لماذا تُختصر القوامة في "الأمر والنهي"، بينما تُنسى معانيها الأعمق من رعاية وتحمّل مسؤولية؟

هذه الأسئلة ليست تمردًا على الدين، بل صرخة ضد القراءة المنقوصة له. المرأة حين تعترض على تحويلها إلى خادمة، فهي لا تنكر القوامة في معناها الأصيل، بل تنكر تحريفها إلى سلطة استعباد.

إننا بحاجة إلى أن نعيد النظر في مفهوم القوامة بعيدًا عن العبارات الموروثة التي تُردَّد بلا وعي.

القوامة مسؤولية وليست امتيازًا، تكليف لا تشريف. وكما أن المرأة تُحاسَب على واجباتها، فالرجل أيضًا يُحاسَب على مدى التزامه بمسؤولياته. لا يكفي أن يرفع صوته أو يلوّح بسلطته، بل عليه أن يُثبت بأفعاله أنه جدير بحمل تلك الأمانة.

ولعل التحدي الأكبر في زمن المرأة المستقلة هو إيجاد معادلة التوازن: أن لا تتحول استقلاليتها إلى إنكار لدور الرجل، وأن لا يتحول دور الرجل إلى سيف مسلط فوق رقبتها. فالكرامة لا تتجزأ، والشراكة لا تقوم على خضوع طرف واستعلاء الآخر.

حين تُصبح القوامة مرادفًا للحب والرعاية، لن تشعر المرأة أبدًا أنها "خدامة". بل سترى في شريكها رجلًا مسؤولًا يحتضنها لا يستغلها، ويصونها لا يُهملها. وحين يدرك الرجل أن استقلالية المرأة ليست تهديدًا له، بل قوة تُضاف إلى قوته، سيكتشف أن القوامة الحقيقية ليست حكمًا بالإعدام على المساواة، بل مساحة من التكامل تجعل الأسرة أكثر توازنًا وصلابة.

إن أخطر ما يواجه البيوت اليوم ليس فقدان القوامة، بل فقدان العدل. والعدل وحده هو الذي يجعل المرأة المستقلة قادرة على أن تكون زوجة وأمًا دون أن تُسحق أنوثتها أو تُهان كرامتها. أما حين تُفرَّغ القوامة من معناها العادل، فلن تكون سوى غطاء رخيص لعلاقة غير متوازنة، تُحيل البيت إلى مسرح صامت من الاستنزاف والخذلان.

ختامًا، القوامة ليست حكمًا تاريخيًا لا يتغير بتغير الزمان والمكان. إنها روح تُفهم في ضوء العدالة، لا في ضوء السيطرة. والمرأة المستقلة لا تحتاج إلى رجل يراها خادمة، بل إلى رجل يراها شريكة. وبين الخادمة والشريكة مسافة تُختصر بكلمة واحدة: الوعي.

search