
سبوبة الدراسات المهنية.. أكاذيب علمية وألقاب بلا قيمة
في السنوات الأخيرة، شهدت مصر انتشارا واسعا لما يسمى بالدراسات المهنية، وهي برامج أُسست على فكرة زائفة، جاءت من بعض الجهات والمؤسسات التي أرادت تقديم بديل سريع للتعليم الجامعي التقليدي، وتقديمها كوسيلة لتأهيل الأجيال الجديدة. هذه الفكرة، للأسف، لم تبنَ على أي أساس علمي أو منهجي سليم، بل على رغبة في تسويق الألقاب ومنح شهادات فارغة في مضمونها ومحتواها على الورق.
أدى هذا إلى حالة من التضليل، حيث أصبح بعض المسؤولين والمروجين لهذه البرامج يعتبرون أنفسهم مبتكرين لإنجاز علمي، بينما الواقع يكشف عن جهل واضح وفجوة معرفية واسعة، الخطورة لا تكمن فقط في سوء التصميم الأكاديمي لهذه البرامج، بل في الأجيال التي خرجت منها، الحاصلون على هذه "الشهادات المهنية" غالبًا ما يفتقرون لأبسط أدوات التحليل والفهم النقدي، ويجهلون قواعد البحث العلمي والمنهجية الصحيحة، وبالتالي فإن القيمة العلمية لهم معدومة عمليا.
إذا سألت أحد هؤلاء الدارسين عن مضمون البرنامج الذي التحق به، أو قدرتهم على التعامل مع المشكلات الواقعية التي يفترض أن يؤهلوا لحلها، ستجد في الغالب جهلا فادحا وضعفا معرفيا كبيرا، هؤلاء الأشخاص، بدلا من أن يكونوا عناصر فاعلة في المجتمع الأكاديمي أو المهني، يتحولون إلى مجرد دعاية لما هو وهمي، ويستغلون الألقاب التي حصلوا عليها للترويج لأنفسهم على أنها مؤهلات علمية حقيقية، بينما الحقيقة عكس ذلك تمامًا.
الأمر يزداد سوءا عندما يتعلق الأمر بأعضاء هيئة التدريس في بعض هذه البرامج، المفترض أن يكون هؤلاء العمود الفقري للبرنامج، وهم من يفترض أن يضمنوا الجودة العلمية والمهنية، لكن الواقع يكشف أن بعضهم لا يمتلك المؤهلات والخبرة الأكاديمية اللازمة، وجودهم في هذه البرامج لا يعزز المصداقية، بل يضخم الفكرة الخاطئة بأن هذه الدراسات المهنية لها قيمة علمية، وهو أمر بعيد كل البعد عن الحقيقة.
مع الأسف، بعض من يحافظ على هذه الدراسات المهنية ويمنحها الشرعية هم أولئك المشرفون عليها، الذين لم يكن همهم سوى قراءة مجموعة من الأوراق السطحية، المنقولة أو المسروقة في أغلبها من صفحات المجلات والكتب والقصاصات دون أي إضافة علمية أو فكرية حقيقية، هؤلاء المشرفون أصبحوا جزءا من المشكلة، إذ يرسخون وهم القيمة العلمية ويعطون مظهرا شرعيا لما هو بلا أساس، بينما الحقيقة أن البحث العلمي فقد هيبته ومكانته الحقيقية، وأصبح ضحية لهذه الفوضى، مما يضعف المصداقية الأكاديمية ويهدد مستقبل التعليم والمعرفة، ويترك أثرًا سلبيًا طويل الأمد على الأجيال الجديدة.
هذا الوضع ليس مجرد مسألة تعليمية أو أكاديمية، بل له آثار اجتماعية وثقافية خطيرة، انتشار هذه الدراسات واعتبارها بديلا عن التعليم الجامعي التقليدي، مع الترويج لها بشكل مكثف على وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي على أنها إنجازات علمية، يخلق خلطًا خطيرا بين المظاهر والشهادات من جهة، والمعرفة الحقيقية من جهة أخرى، هذا الخلط لا يضر فقط بالمجتمع الأكاديمي، بل يضعف الثقة في العملية التعليمية ويشوه مفاهيم التميز والفكر النقدي، ويضر بقدرة المجتمع على إنتاج كوادر حقيقية مؤهلة ومبدعة.
الحد من هذه الظاهرة يتطلب معالجة شاملة من عدة محاور، أولها وقف البرامج التي لا تتوافق مع معايير الجودة الأكاديمية وإعادة تقييم كل من أسس هذه الفكرة أو يروّج لها، مع التأكيد على أن أي شهادات تمنح بهذه الطريقة لا تعكس قيمة علمية حقيقية. ثانيا، توعية الجمهور والدارسين بأن معيار التميز الحقيقي هو المعرفة والقدرة على التحليل والتطبيق، وليس مجرد ورقة أو لقب يمنح على أساس وهمي.
ثالثًا، إعادة هيكلة النظام التعليمي المهني بحيث تكون هذه البرامج مكملة للتعليم الجامعي الرسمي وليست بديلًا عنه، مع ضمان وجود هيئة تدريس مؤهلة وذات مصداقية علمية حقيقية، ومحتوى يُبنى على أساس البحث العلمي والتطبيق العملي. رابعا، دعم البحث العلمي الحقيقي وتشجيع الابتكار الأكاديمي بحيث يصبح هناك مسار واضح لتطوير الكوادر، بدلاً من بيع ألقاب وهمية على الورق.
وبطبيعة الحال، لا يمكن تعميم حديثي على أن كل الدراسات المهنية بلا قيمة، فهناك بعض البرامج التي قد تحمل نوايا علمية سليمة أو تساهم فعليا في تطوير المهارات العملية، ولكن الواقع يؤكد أن غالبية هذه الدراسات، وربما بنسبة تصل إلى 99%، ما هي إلا سبوبة حقيقية، تستغل للحصول على ألقاب وهمية وشهادات بلا أساس علمي، تسوق على أنها إنجازات علمية بينما هي في الحقيقة أدوات للترويج الذاتي ووسيلة لبيع الورق بدل المعرفة.
هذا الواقع المؤسف يجعل من الضروري إعادة تقييم هذه البرامج بشكل جاد، ووضع ضوابط صارمة تحمي مكانة البحث العلمي، وتضمن أن تكون الدراسات المهنية أدوات حقيقية لتطوير الكفاءة والمعرفة، لا مجرد سوق للألقاب الوهمية.
في نهاية المطاف، ما أسسه من قدموا فكرة هذه الدراسات ومن حصلوا عليها بلا أساس معرفي يمثل خطأ جسيما، ويضعف الإطار الأكاديمي والمجتمعي على حد سواء، هذه البرامج لا تعكس أي قيمة حقيقية، ومن الخطر اعتبارها إنجازا أو وسيلة للترويج الشخصي.
المجتمع بحاجة إلى أجيال تتعلم فعليا، وتفكر، وتحلل، وتبتكر، وليس إلى أجيال تحمل ألقابا فارغة تسوّق على أنها درجات علمية، إعادة النظر الجذرية في هذه البرامج ومحاسبة المسؤولين عنها، مع بناء بدائل علمية حقيقية، هو الطريق الوحيد لضمان أن التعليم المهني في مصر لا يتحول إلى مجرد سوق للألقاب الوهمية، بل يصبح ركيزة لتطوير المعرفة والكفاءة الحقيقية.

الأكثر قراءة
-
القنوات الناقلة لمباراة الزمالك وديكيداها بالكونفدرالية الأفريقية
-
موعد صرف مرتبات أكتوبر 2025، هل تشمل الزيادة الجديدة؟
-
شقيق السائق في حادث ترعة منقباد: أخي لم يكن سائقًا.. وابنتاه بين الضحايا
-
شاهد، بث مباشر مباراة الزمالك و ديكاداها في الكونفدرالية 2025
-
شاهد، بث مباشر مباراة الأهلي وإيجل نوار في دوري أبطال إفريقيا 2025
-
الكنيست ١٩٧٧ – ٢٠٢٥
-
كم توفر الحكومة من رفع أسعار البنزين والسولار في الزيادة الأخيرة؟
-
والد ضحية الإسماعيلية: "جمعنا جسم ابننا من كذا مكان ومش هسيب حقه"

مقالات ذات صلة
الذكاء الاصطناعي في البحث العلمي.. بين فرص الثورة وخطر البيانات المزيفة
08 أكتوبر 2025 05:53 م
معيد سوهاج المتفوق.. لماذا كان لا بد من الضجة ليسترد حقه؟
24 سبتمبر 2025 03:20 م
سطو الجهلة على عرش الخبراء.. سقوط هيبة التخصصات الأكاديمية
10 سبتمبر 2025 03:22 م
هل تحتاج مصر حقا إلى مرصد للتقييم وصنع السياسات؟
21 أغسطس 2025 06:09 م
أكثر الكلمات انتشاراً