بعد توجيهات الرئيس.. هل حان وقت تحديث الحياة السياسية في مصر؟
في لحظات معينة لا تحتاج الدولة إلى ضجيج كي تُسمع رسائلها، ولا تحتاج السياسة إلى أزمة كي تكشف ما تحت السطح، فتوجيهات الرئيس عبد الفتاح السيسي عقب الجولة الأولى من انتخابات مجلس النواب 2025 كانت من هذا النوع: هادئة في ظاهرها، لكنها عميقة في مضمونها، وأقرب ما تكون إلى مراجعة شاملة لطريقة إدارة الحياة السياسية نفسها.
فحديث الرئيس بدا واضحاً بأن ما قيل لم يكن مجرد تعليق إداري على وقائع انتخابية، بل كان أقرب إلى إعادة فتح ملف الحياة السياسية من بابه الواسع. الرئيس لم يتحدث عن النتائج بقدر ما تحدّث عن الحقيقة، ولم يناقش الإجراءات بقدر ما أصر على معنى الإرادة الشعبية. كان كلامه هادئاً، لكنه حمل صدى السؤال الأكبر: هل آن الأوان لتحديث الحياة السياسية في مصر؟
اللافت في حديث الرئيس أنه لم يطلب شيئاً استثنائياً؛ بل طلب فقط أن تعكس النتائج أصوات الناس، وأن تُراجع الطعون بدقة، وأن يحصل كل مندوب على صورة من كشف حصر الأصوات، وأن تتخذ الهيئة الوطنية للانتخابات القرار الصحيح، حتى لو كان الإلغاء الجزئي أو الكلي للمرحلة في بعض الدوائر.
مثل هذه الجمل لا تُقال عادةً إلا عندما تكون الدولة أمام لحظة تحتاج فيها إلى صراحة كاملة، وإلى كشف حساب مع نفسها قبل أي طرف آخر. وهذا وحده يطرح فكرة أن ما شهده الشارع الانتخابي لم يكن حادثاً عابراً، بل مؤشراً على خلل أعمق يتجاوز المنافسة الانتخابية إلى المشهد السياسي كله.
قبل أسابيع من انطلاق الانتخابات كنت قد أعددت ورقة متكاملة حول تحديث الحياة السياسية في مصر. فهذه الورقة لم تُكتب على عجل ولا جاءت بعد أزمة، بل جاءت قبلها بوقت كافٍ، انطلاقاً من قراءة أن استمرار الحياة السياسية بشكلها الحالي قد يؤدي إلى اختناقات حقيقية سوف تظهر في أول اختبار كبير. وهذا ما حدث بالفعل. فالانتخابات كشفت ما كان يختبئ وراء المشهد: أحزاب ضعيفة، منافسة غير متوازنة، اعتماد شبه كامل على الفردية والعائلات والعصبيات، ومواطن يشعر أن صوته لا يغيّر الكثير، حتى وإن كان يحلم بأن يكون جزءاً من مشهد أوسع.
الورقة التي تم تقديمها قامت على رؤية بسيطة: أن الدولة المصرية تتقدم في البناء، وتتحرك في التنمية، وتعيد صياغة دورها الإقليمي والدولي، بينما بقيت الحياة السياسية في مساحة رمادية لا تناسب حجم ما يتم إنجازه. لذلك طرحت الورقة ضرورة إصلاح شامل في منظومة التشريعات الحاكمة للمشهد الحزبي والانتخابي، وتطوير مؤسسات التمثيل الشعبي لتكون أدوات حقيقية لصناعة السياسات لا مجرد ديكور سياسي، وتوسيع مساحة التفاعل المجتمعي بحيث يُعاد دمج الشباب والمرأة في قلب العملية السياسية لا في هامشها، إضافة إلى صياغة إطار وطني شامل يُجدد مفهوم السياسة نفسها داخل المجتمع ويصنع حواراً مستداماً لا مرتبطاً بمواسم أو أحداث.
الانتخابات الأخيرة لم تُنتج الأزمة، بل كشفتها. فصندوق الاقتراع دائماً هو المرآة، والمشكلة ليست في المرآة بل في الصورة التي تعكسها. نحن أمام واقع يتكرر منذ سنوات: أحزاب تتناقص أدوارها بدل أن تتوسع، منافسة تعتمد على النفوذ أكثر مما تعتمد على البرامج، ودوائر انتخابية تتحول فيها السياسة إلى معارك اجتماعية لا إلى تنافس بين رؤى. ومثل هذا المشهد يجعل المواطن يشعر أن العملية السياسية شيء منفصل عنه، وأن الصوت لا يتحول إلى أثر. وهذا الخلل لا تعالجه هيئة الانتخابات وحدها، ولا تعالجه القوانين وحدها، بل يعالجه مناخ سياسي كامل يحتاج إلى إعادة بناء الثقة من أساسها.
ولهذا جاءت توجيهات الرئيس منسجمة تماماً مع الفلسفة التي قامت عليها الورقة التي تم إعدادها قبل الانتخابات. فالكلام عن "إرادة الناخبين الحقيقية" ليس جملة عابرة، بل إعلان بأن الشرعية الشعبية هي القاعدة الأولى للجمهورية الجديدة، وأن أي إصلاح اقتصادي أو عمراني لا يكتمل بدون إصلاح سياسي موازٍ. فالدولة التي أعادت بناء البنية التحتية تحتاج أن تعيد بناء السياسة أيضاً، وأن تستعيد المعنى المفقود في الممارسة الحزبية، والمساءلة البرلمانية، والمشاركة الشعبية.
مصر اليوم أقوى بكثير في الإدارة والتنظيم وبناء المؤسسات، لكنها تحتاج أن تستعيد ما هو أهم: حياة سياسية تليق بحجمها وبطموحاتها. فالدول لا تخشى المعارضة بقدر ما تخشى الفراغ. والفراغ السياسي هو أخطر ما يمكن أن تواجهه دولة تتحرك بهذا الحجم وبهذا الطموح. لذلك تبدو اللحظة الحالية مناسبة - وربما واجبة- لإطلاق عملية تحديث سياسي شاملة تُعيد التوازن بين الدولة والمجتمع، وتمنح المواطن مساحة يشعر فيها بأن صوته مسموع، ورأيه قادر على تشكيل المستقبل.
توجيهات الرئيس كانت رسالة واضحة بأن الدولة تتحرك نحو هذه اللحظة. والانتخابات كشفت الحاجة. والرؤية موجودة بالفعل وتم تقديمها قبل أن يبدأ الاختبار. كل ذلك يجعل السؤال الآن بسيطاً لكنه حاسماً: هل حان وقت تحديث الحياة السياسية في مصر؟
الإجابة تبدو أقرب إلى اليقين: نعم… وقد قالها الرئيس نفسه بطريقة أخرى حين طالب بالحقيقة. والحقيقة دائماً هي نقطة البداية.
الأكثر قراءة
-
"رامي ضحية الـ10 ثوانٍ"، مجهول يفسد أحلى أوقات طالب بكلية التجارة في الهرم
-
حقوق وامتيازات حصرية، كم راتب عضو مجلس النواب في البرلمان الجديد؟
-
افتح وريني المخزون، مواطن لـ محافظ الأقصر: العقارب أكثر من الناس ومفيش أمصال
-
إحالة بلاغ بوسي شلبي ضد غادة إبراهيم لنيابة غسيل الأموال
-
كل ما تريد معرفته عن مسلسل "كارثة طبيعية"، عدد الحلقات ومواعيد وخطط العرض
-
عيار 21 يقفز 70 جنيهًا، ارتفاع أسعار الذهب في مصر بالتعاملات المسائية
-
نسور قرطاج أحرجوا السامبا، تونس تخطف تعادلًا تاريخيًا من البرازيل وديًا
-
إسبانيا تتعادل مع تركيا وتتأهل رسميًا إلى كأس العالم 2026
مقالات ذات صلة
زهران ممداني.. حين انتصرت نيويورك على ترامب
05 نوفمبر 2025 05:25 م
ميثاق الشرف الانتخابي.. محاولة لتغيير قواعد اللعبة
01 نوفمبر 2025 09:42 ص
محمد سلام.. حين كرّم الوطن ضمير الفن
27 أكتوبر 2025 11:14 ص
فوز مصر بعضوية مجلس حقوق الإنسان بين الثقة والمسؤولية
16 أكتوبر 2025 03:55 م
أكثر الكلمات انتشاراً