 
                                    الجامعات بين رسالة العلم وسلطة الموظفين.. من يعيد التوازن المفقود؟
في الوقت الذي تُعلن فيه الدولة عن خطط طموحة للنهوض بالتعليم العالي، وتحسين جودة الحياة داخل الجامعات، تتكرر على الأرض مشاهد مؤسفة لا تليق بالمكانة المفترضة للمؤسسة الأكاديمية، مشاهد يتصدرها بعض الموظفين الإداريين، الذين تحولت علاقتهم بالطلاب والباحثين إلى معركة يومية من سوء الفهم، وغياب الاحترام، والتعامل الفوقي، وكأننا في مصلحة حكومية عتيقة، لا في صرح علمي يُفترض فيه أن يسود الاحترام والتقدير.
الكثير من الشكاوى تتكرر حول الطريقة التي يعامل بها بعض الموظفين الطلبة والباحثين، من تأخير الإجراءات إلى الصوت المرتفع، وغياب المهنية، بل وأحيانا التعدي اللفظي أو النفسي، ومما يضاعف الأزمة أن هذه التصرفات تمر في كثير من الأحيان دون رد حاسم من الإدارة الجامعية، وهو ما يفتح الباب لتراكم الغضب وفقدان الثقة بين الطالب والمنظومة.
الجامعة ليست مجرد قاعات دراسية وشهادات تسلم، بل بيئة متكاملة تغرس فيها القيم، ويصقل فيها السلوك، وتحترم فيها الكرامة، وإذا اختل هذا التوازن، وسمح لموظف بأن يتجاوز حدوده المهنية، فإننا نكون بصدد تآكل في بنية المؤسسة من الداخل، حتى لو بدا الشكل الخارجي لامعًا.
من هنا، تبرز الحاجة إلى مراجعة شاملة لسلوكيات بعض العاملين داخل الجامعات، بدءًا من تدريبهم على مهارات التواصل واحترام الآخر، وليس انتهاءً بإجراء فحوصات دورية – نفسية وبدنية – لضمان قدرتهم على أداء مهامهم في بيئة تعليمية تتطلب قدراً كبيراً من الصبر والاتزان واللياقة في التعامل.
الطلاب والباحثون ليسوا متهمين حتى يعاملوا بجفاء أو يدفعوا للشكوى في كل خطوة، هم شركاء في بناء الجامعة، لا عبء عليها، وصوتهم يجب أن يسمع، لا أن يهمَل، والمسؤولية هنا لا تقع على الموظف وحده، بل تمتد لتشمل رؤساء الجامعات وعمداء الكليات الذين تقع عليهم مسؤولية ضبط الأداء، ووضع معايير صارمة تحكم علاقة العاملين بالإداريين مع الطلاب وأعضاء هيئة التدريس، كما أن وزارة التعليم العالي مدعوة إلى التحرك، ليس بإطلاق الاستراتيجيات فقط، بل بمتابعة تنفيذها على الأرض ومحاسبة المقصرين.
ليس من المقبول – بأي حال من الأحوال– أن يساوي الموظف الإداري نفسه بعضو هيئة التدريس، لا في المكانة العلمية، ولا في الدور داخل الجامعة، فلكلٍ موقعه وحدوده ومسؤولياته، والخلط بين الأدوار يولد فوضى تنظيمية وسلوكية.
عضو هيئة التدريس هو العمود الفقري للعملية التعليمية والبحثية، صاحب رسالة أكاديمية واضحة، بينما الموظف الإداري – مع احترامنا لدوره– يفترض أن يكون مساعدًا ومنظما وداعما لهذه الرسالة، لا أن يتعامل بفوقية أو نزعة تسلط، وكأنه الند أو المتحكم، إن ترسيخ هذا الفهم داخل المؤسسات الجامعية ضرورة ملحة، لأنه حين تتساوى الأدوار بلا وعي، تهان الكفاءة، ويختل التوازن، وتفقد الجامعة جزءا من هويتها الأكاديمية.
دعني أقول لك بصراحة إن أحد أبرز أسباب هذه الفوضى المؤسسية هو تراجع بعض أعضاء هيئة التدريس أنفسهم عن دورهم القيادي داخل الجامعة، وتماهِيهم المفرط مع الإداريين في تفاصيل يومية يفترض ألا تكون من صميم عملهم، حتى ضاعت هيبة الأستاذ، وتجرأ الموظف على من يفترض أن يكون صاحب الكلمة العلمية العليا في الجامعة.
لقد خلق هذا التداخل غير الصحي حالة من "استباحة"، يتصرف فيها الموظف أحيانا وكأنه فوق الأستاذ، يفرض شروطه، ويتدخل في ما لا يعنيه، مادياً أو معنوياً، دون ردع أو ضبط، الأخطر أن بعض الأساتذة – بدافع المجاملة أو التعايش – قبلوا بهذا الوضع وتعايشوا معه، ففقدوا تدريجياً احترامهم في عيون من يفترض أن يكونوا في موقع الخدمة لا السلطة.
الخلل هنا بنيوي ويستدعي تدخلاً عاجلاً لإعادة رسم حدود العلاقة بين أعضاء هيئة التدريس والعاملين الإداريين. لا بالإقصاء أو التكبر، بل بإرساء ضوابط صارمة تُعيد لكل طرف مكانته الحقيقية، وتحفظ للجامعة هُويتها ومكانتها. لا تعليم بلا احترام للتدرج العلمي، ولا جامعة تنجح إذا اختلطت فيها الأدوار حتى أصبح الأستاذ ينتظر رضا الموظف لإنهاء ورقة أو تسهيل إجراء.
حان الوقت لأن يتوقف هذا العبث، وأن تعود الجامعة إلى أصلها: مؤسسة يقودها العلم، لا تسيطر عليها البيروقراطية.
ببساطة: لا مكان في الجامعة لمن لا يحترم رسالة الجامعة،
ولا قيمة لعلم يهدر فيه كرامة الإنسان على أبواب الموظفين.
 
        الأكثر قراءة
- 
                استغرق تنفيذه 16 شهرًا، مسؤول إضاءة معروضات المتحف المصري الكبير يروي تفاصيل المشروع العملاق
- 
                تنبيه عاجل من كهرباء مصر العليا بشأن خدمة الشحن المسبق
- 
                سعر ومواصفات هاتف oppo find x9 pro
- 
                رحمة محسن بعد أزمة الفيديوهات: "الكل عمل معايا الواجب ومش محتاجة مساعدة" (خاص)
- 
                "صن كريت" تنفي علاقتها بالحادث المتسبب في رحيل ماجد هلال وكيرلس صلاح (خاص)
- 
                بالتزامن مع افتتاح المتحف الكبير.. "تليجراف مصر" تطلق مبادرة "5 ملايين صورة لكل شبر في مصر"
- 
                "سيفتي"، حقيقة الصورة المتداولة لعمال المتحف المصري الكبير (خاص)
- 
                شاهد مباراة مصر وإسبانيا لكرة اليد للناشئين في كأس العالم، بث مباشر
 
        مقالات ذات صلة
فوضى المجلات الأكاديمية الوهمية.. من يسرق شرف البحث العلمي؟
31 أكتوبر 2025 10:20 ص
بوابات "الدرجات السهلة".. شرعية قانونية ولكن!
22 أكتوبر 2025 02:19 م
سبوبة الدراسات المهنية.. أكاذيب علمية وألقاب بلا قيمة
15 أكتوبر 2025 11:06 ص
الذكاء الاصطناعي في البحث العلمي.. بين فرص الثورة وخطر البيانات المزيفة
08 أكتوبر 2025 05:53 م
معيد سوهاج المتفوق.. لماذا كان لا بد من الضجة ليسترد حقه؟
24 سبتمبر 2025 03:20 م
سطو الجهلة على عرش الخبراء.. سقوط هيبة التخصصات الأكاديمية
10 سبتمبر 2025 03:22 م
هل تحتاج مصر حقا إلى مرصد للتقييم وصنع السياسات؟
21 أغسطس 2025 06:09 م
هنا جامعة القاهرة.. منارة المجد وعرين العظماء
17 أغسطس 2025 10:07 ص
أكثر الكلمات انتشاراً
 
                     
                                     
                                     
                                     
                                     
                                     
                                     
                     
 
