الجمعة، 08 أغسطس 2025

10:34 ص

الاقتصاد القياسي والتحليل الكمي.. عماد القرار في عصر البيانات

في زمنٍ تتدفق فيه البيانات من كل حدب وصوب، وتتشابك فيه الظواهر الاقتصادية والاجتماعية على نحو غير مسبوق، لم يعد بالإمكان الركون إلى التحليل الإنشائي أو التقديرات الحدسية لصياغة السياسات واتخاذ القرارات، بل أصبح من الضروري الاعتماد على أدوات صارمة، منهجية، وقابلة للقياس، وهنا يتقدم علم الاقتصاد القياسي والتحليل الكمي بوصفه أحد أهم أعمدة الفكر العلمي الحديث، بل يمكن القول دون مبالغة إنه العلم الأهم في عصرنا الرقمي، لما يوفره من أدوات لفهم الواقع وتفسيره والتنبؤ بمساراته المستقبلية.

الاقتصاد القياسي ليس مجرد فرع رياضي داخل علم الاقتصاد، بل هو البوابة التي تعبر منها النظرية الاقتصادية إلى أرض الواقع، إنه العلم الذي يأخذ المفاهيم المجردة كالعرض والطلب، أو التضخم والنمو ويحولها إلى نماذج قابلة للقياس، قابلة للاختبار، قابلة للتطبيق، بفضله نستطيع اليوم أن نقيّم أثر السياسات الحكومية، وأن نتنبأ بالأزمات قبل وقوعها، وأن نضبط استراتيجياتنا الاستثمارية بدقة تعتمد على الأدلة لا على الانطباعات.

ومع تسارع ثورة البيانات، وارتفاع جودة ودقة مصادر المعلومات من قواعد بيانات حكومية، وتقارير مالية، وسجلات رقمية هائلة، أصبح للاقتصاد القياسي دور أعظم من ذي قبل، فحين تتوفر البيانات الجيدة، تصبح النماذج أكثر موثوقية، وتتحول الرؤى الاقتصادية إلى خرائط طريق تستند إلى الواقع لا إلى الافتراض، لقد انتهى عصر التخمين، وجاء عصر القياس؛ ومن لا يُتقن أدوات التحليل الكمي سيظل حبيس الرؤية الضبابية مهما بلغت فصاحته في الطرح النظري.

إن التحليل الكمي لا يلغي أهمية العلوم الأخرى ولا يقلل من شأن الفهم النوعي، بل يتكامل معها، لكنه، في المقابل، يضع المعايير العلمية الدقيقة التي تحكم مدى صحة الفرضيات، ويمنح صانع القرار القدرة على وزن البدائل بحساب دقيق للعوائد والمخاطر، وهكذا، تتحول السياسة الاقتصادية من اجتهادات فردية إلى منظومة تستند إلى الأدلة والتجريب والنمذجة، وهو ما تحتاجه الدول والمؤسسات في ظل عالم متغير سريع لا يرحم العشوائية.

إن الدفاع عن علم الاقتصاد القياسي هو دفاع عن العقلانية في اتخاذ القرار، وعن المنهج العلمي في مواجهة الفوضى، وعن ضرورة أن تكون السياسات العامة والقرارات الاقتصادية مبنية على أسس رصينة لا على أمزجة أو مصالح عابرة، إننا اليوم، أكثر من أي وقت مضى، بحاجة إلى عقول تُجيد قراءة الأرقام، وفهم الأنماط، وتحويل البيانات إلى بصيرة.

ورغم ما يملكه الاقتصاد القياسي من أدوات تحليلية دقيقة، فإن الاعتماد عليه وحده دون التحليل الوصفي للبيانات يعد إخلالا بمنهجية الفهم المتكامل، فالتحليل الوصفي يمثل الخطوة التمهيدية التي لا غنى عنها، إذ يعين الباحث على تفهم طبيعة البيانات، وكشف الاتجاهات العامة، والأنماط الأولية، والتقلبات غير المتوقعة، بل كثيرا ما ينير التحليل الوصفي الطريق أمام النماذج الكمية، ويمنع الوقوع في التفسيرات الخاطئة الناتجة عن إدخال متغيرات دون فهم مسبق لطبيعتها أو علاقتها بالسياق العام، فالإحصاء الوصفي لا يعد ترفا معرفيا، بل هو أساس الرؤية الاستكشافية التي تجنب الباحث الوقوع في التبسيط المخل أو التحليل الأعمى، ومن هنا، فإن الاقتصاد القياسي، رغم دقته، لا يكتمل أثره إلا حين يسبق بقراءة وصفية واعية تنصت للبيانات قبل أن تفرض عليها فرضيات مسبقة.
إن التكامل بين التحليل الوصفي والاقتصاد القياسي لا ينتج مدرستين متعارضتين، بل يفضي إلى نتيجة واحدة أكثر صدقًا واتزانا، فالتحليل الوصفي يمنح الباحث الصورة الأولية للواقع، يكشف له الملامح العامة للبيانات، ويهيئ ذهنه لفهم السياق؛ ثم يأتي الاقتصاد القياسي ليُعمّق هذا الفهم، ويضفي عليه طابعا استدلاليا دقيقا يمكن الوثوق به واتخاذ القرار بناء عليه، وحين يلتقي الفرعان الوصفي والكمي فإن الناتج ليس مجرد معادلات أو جداول، بل رؤية شاملة قادرة على الجمع بين الحس التحليلي والصرامة العلمية، وهي الرؤية التي تُميز الباحث الحقيقي عن من يتعامل مع الأرقام بوصفها غاية لا وسيلة، فالمعرفة لا تبنى بالتجزئة، بل بالتكامل، وكلما التقت أدوات الوصف مع مناهج القياس، اقتربنا من الحقيقة وتجنبنا الزلل.

search