
سطو الجهلة على عرش الخبراء.. سقوط هيبة التخصصات الأكاديمية
في السنوات الأخيرة، باتت الساحة الإعلامية والفكرية تعجّ بموجة من الأشخاص الذين يطلقون على أنفسهم ألقابًا رنانة دون أن يكون لهم باع حقيقي أو تراكم معرفي يؤهلهم لذلك، فتجد كل واحد يتصدر المشهد معرفًا نفسه بصفة "باحث سياسي" أو "خبير اقتصادي" أو "متخصص في العلاقات الدولية"، في حين أن خلفيته الأكاديمية قد لا تمتّ بأي صلة للمجال الذي يتحدث فيه، وربما لم ينتج في حياته ورقة بحثية محكمة أو دراسة علمية منشورة في مجلة متخصصة تخضع للتحكيم الأكاديمي.
هذه الظاهرة تمثل في جوهرها عملية تفريغ للتخصصات العلمية من مضمونها وإفقادها قيمتها وهيبتها، إذ لم يعد المشاهد أو القارئ قادرًا على التمييز بين الباحث الحقيقي الذي أفنى سنوات من عمره في البحث والتنقيب والتدقيق، وبين شخص قرأ بضعة مقالات أو حفظ بعض المصطلحات وتسلّح بقدرة كلامية يبيع بها الوهم على الشاشات.
المأساة الكبرى أن هذه الفوضى المعرفية لا تقتصر على تضليل الجمهور فحسب، بل تسيء إلى جوهر البحث العلمي الذي يقوم على الصرامة والدقة والمنهجية، فالباحث الحقيقي لا يُطلق عليه هذا اللقب إلا عندما يقدم منتجًا علميًا محكمًا، يخضع للتدقيق من قبل لجان علمية متخصصة تضم كبار الأساتذة والخبراء، فيقرون له بتميزه وقدرته على الإضافة في مجاله.
أما أن يأتي شخص يحمل درجة دكتوراه في الحقوق مثلًا بتخصص التشريعات المالية والاقتصادية، ثم يعلن نفسه "خبيرًا اقتصاديًا"، فهذا ليس إلا تجاوزا على العلم واستخفافا بجهد العلماء الذين نذروا حياتهم للتخصص، وأي استخفاف أكبر من أن يخرج هذا الشخص في جميع القنوات الفضائية ليعلق على قامة عالمية بحجم الدكتور محمود محيي الدين، أستاذ الاقتصاد وأحد أبرز العقول الاقتصادية في العالم، والذي تقلّد أرفع المناصب الدولية وله إسهامات فكرية وعملية يعترف بها المجتمع الأكاديمي والاقتصادي العالمي؟
كيف يعقل أن يجرؤ من لم يكتب بحثا اقتصاديا واحدا على أن ينصّب نفسه ندا لمن يعد مرجعا اقتصاديا دوليا من الطراز الرفيع؟ إن هذا المشهد ليس مجرد تجاوز عابر، بل هو وصمة عار على الإعلام الذي يسمح بمثل هذه المقارنات المضحكة المبكية.
الأنكى من ذلك أن آخرين يتطاولون من السادة حاصلي درجة الماجستير في القانون ويعملون في مهنة المحاماة فيعرفون أنفسهم بـ"خبراء العلاقات الدولية"، وكأن العلاقات الدولية مجرد أحاديث عامة أو جملة من الانطباعات التي يمكن لأي قارئ للأخبار أن يتبناها، إن الأمر أشبه بانتزاع قيمة التخصص الأكاديمي من جذوره، والاستهزاء بالمعرفة التي تقوم في الأصل على التراكم المنهجي، والاشتغال الطويل، والتدريب البحثي الصارم.
هذه الظاهرة ليست مجرد عيب مهني أو أخلاقي، بل هي شكل من أشكال العبث بالمجتمع وبالعقل الجمعي، لأنها تخلق طبقة من "الخبراء المزيفين" الذين يضللون الجمهور ويستغلون المنابر الإعلامية لتسويق أنفسهم، بينما يختفي صوت الخبراء الحقيقيين الذين لم يجدوا الفرصة ذاتها للظهور رغم امتلاكهم العلم والكفاءة.
إن خطورة هذا الانحدار تكمن في أنه يعيد تشكيل وعي الرأي العام على أسس مغلوطة، فالمواطن العادي لا يملك غالبًا أدوات التمييز بين المتخصص الحقيقي والمُدّعي، فيأخذ كلام الأول والثاني على نفس الدرجة من الجدية، وهنا تكمن الكارثة. فحين يتحول العلم إلى مجرد لقب يوزع بلا ضوابط، وتصبح "الخبرة" كلمة فضفاضة يتلاعب بها من يشاء، يفقد المجتمع معاييره ويهتز بنيانه المعرفي.
لا يليق أن تتحول التخصصات إلى ساحة للاستهزاء والسخافة، ولا أن يستغل الإعلام ليكون مسرحًا لتمثيليات يدّعي فيها البعض أنهم "باحثون"، وهم لم يخطوا يومًا خطوة واحدة في درب البحث العلمي الحقيقي، إن صيانة قيمة التخصص هي صيانة لكرامة المعرفة، والعبث بها ليس إلا استخفافا بمستقبل الأجيال وبجدية الجامعات والمؤسسات العلمية التي لا تمنح شهاداتها وألقابها إلا بعرق وجهد حقيقيين.
وللحديث بقية..

الأكثر قراءة
-
المحكمة تخلي سبيل المتهمة بإنهاء حياة زوجها في سوهاج لهذا السبب
-
عظام بارزة ووجوه باهتة.. أختان وطفلة أسيرات العزلة بحلوان
-
بالتردد.. القناة المجانية الناقلة لمباراة بيراميدز وأوكلاند سيتي
-
كراسة شروط سكن لكل المصريين 7.. الفئات والمستندات المطلوبة
-
المتهمة في واقعة مصر القديمة: "باركتلها على الخطوبة من طليقي فشتمتني" (خاص)
-
"ضربه بشومة".. ضبط حارس عقار تعدى على كلب في المقطم
-
5 أعوام من العطش.. الفشل الكلوي يتفشى بين أهالي عزبة الصعايدة بالمنيا
-
غدا.. مصر تتسلم جائزة الآغا خان للعمارة 2025 عن "إحياء إسنا التاريخية"

مقالات ذات صلة
هل تحتاج مصر حقا إلى مرصد للتقييم وصنع السياسات؟
21 أغسطس 2025 06:09 م
هنا جامعة القاهرة.. منارة المجد وعرين العظماء
17 أغسطس 2025 10:07 ص
الاقتصاد القياسي والتحليل الكمي.. عماد القرار في عصر البيانات
07 أغسطس 2025 12:14 م
العلم الذي يفضح المصالح.. ما نجهله عن الاقتصاد السياسي
21 يوليو 2025 04:20 م
أكثر الكلمات انتشاراً