الأحد، 28 سبتمبر 2025

04:08 ص

معيد سوهاج المتفوق.. لماذا كان لا بد من الضجة ليسترد حقه؟

لا شك أن ما جرى مع الطالب المتفوق يوسف خلف فتح الباب، الأول على دفعته بقسم التاريخ بكلية الآداب بجامعة سوهاج، كان لحظة انتصار شخصية مستحقة، فقد كتب له أخيراً أن يستلم قرار تعيينه معيدًا بعد أيام من المعاناة مع البيروقراطية وتعنت غير مبرر من القومسيون الطبي، هذه النهاية السعيدة تستحق التهنئة، فالشاب اجتهد وحقق ما لم يحققه كثيرون، ولم يكن يستحق إلا التكريم.

لكن، في مقابل هذه الفرحة، يقف مشهد أكثر قتامة يجب ألا نتغافل عنه: الجامعة ورئيسها لم يتحرّكوا إلا بعد أن تحولت القضية إلى "قضية رأي عام" وتصدرت عناوين الصحف ومواقع التواصل، هذه ليست بطولة، بل انعكاس لمأساة إدارية باتت متكررة في مؤسساتنا، حيث تتحوّل الحقوق الطبيعية إلى معارك إعلامية، وتترك القرارات الحاسمة حتى ترتفع الأصوات، ثم يصور الأمر بعد ذلك على أنه "إنجاز" أو "انتصار مؤسسي".

الحقيقة أن رئيس الجامعة لم يكن محتاجا لكل هذا الضجيج الإعلامي، كان من الممكن أن يحل الأمر منذ اليوم الأول بمجرد مراجعة الملف ومخاطبة القومسيون الطبي، أو حتى استدعاء لجنة استشارية محايدة تفصل بين "القدرة على أداء العمل" و"اللياقة الطبية"، يوسف ليس أول معيد من ذوي الإعاقة يُعين، بل هناك عشرات الأمثلة في الجامعات المصرية لأساتذة ومعيدين يعانون من إعاقات بصرية أو بدنية، ولم يعرقل أحد مسارهم، فلماذا إذن هذه المرة تحولت القضية إلى أزمة؟ ولماذا انتظرت الجامعة أن تصبح مادة دسمة للإعلام حتى تستيقظ؟

الأخطر من ذلك هو الخطاب الذي حاول البعض ترويجه وكأن الجامعة منحت يوسف "استثناء" أو قدمت له "فضلًا خاصًا"، هذا غير صحيح إطلاقاً، ما حدث لم يكن أكثر من استرداد حق طبيعي، حق يثبته التفوق الأكاديمي، لا المنح ولا المجاملات، الجامعة لم تُعطه شيئاً فوق العادة، بل أعادته فقط إلى المسار الذي كان يجب أن يسير فيه منذ البداية.

في التاريخ نماذج عظيمة تثبت أن الإعاقة الجسدية لا يمكن أن تكون عائقا أمام الإبداع أو التميز، بل قد تتحول إلى دافع للتفوق والخلود، يكفي أن نذكر طه حسين، عميد الأدب العربي، الذي فقد بصره في طفولته لكنه قاد نهضة فكرية وأدبية غيّرت وجه الثقافة العربية، وكذلك بيتهوفن، الموسيقار العالمي الذي فقد سمعه لكنه أبدع أعظم المقطوعات الموسيقية التي ما زالت خالدة حتى اليوم.

وفي عالم السياسة، كان فرانكلين روزفلت رئيس الولايات المتحدة مشلولا ويستخدم الكرسي المتحرك، لكنه قاد بلاده خلال أصعب سنوات الكساد والحرب العالمية الثانية، هذه النماذج تؤكد أن معيار النجاح هو القدرة والعطاء لا الشكل أو الإعاقة، وأن المجتمعات الحية تقاس بمدى قدرتها على احتضان الطاقات لا إقصائها.

وللأسف، هذه الواقعة ليست معزولة، إنها جزء من ظاهرة أوسع داخل مؤسساتنا التعليمية والإدارية، حيث يسود منطق "دع الأمر حتى يعلو الصخب، ثم نتدخل ونظهر بمظهر المنقذ"، هذا السلوك لا يهدر فقط وقت الطلاب والأساتذة، بل يهزّ صورة الجامعة أمام المجتمع، ويُفقدها ما يفترض أن يكون أساس وجودها: العدالة المؤسسية والشفافية.

فأي هيبة تبقى لمؤسسة جامعية حين يعلم طلابها أن حقوقهم لا تنتزع إلا تحت ضغط الإعلام؟ وأي احترام يمكن أن يتولد لقيادة جامعية تنتظر الكاميرات لتنجز ما هو واجب بديهي؟ هذه ليست قيادة، بل رد فعل مرتبك لا يليق بجامعة من أكبر جامعات الصعيد.

اليوم نفرح ليوسف، وغداً قد نحتفل بنجاح طالب آخر في استرداد حقه، لكن المشكلة الجوهرية ستظل قائمة: غياب منظومة مستقلة وسريعة لحسم النزاعات الإدارية والطبية داخل الجامعات، المطلوب ليس التهليل لرئيس جامعة ظهر في اللحظة الأخيرة ليقطف ثمرة لم يزرعها، بل المطلوب إصلاح جذري يُعيد الثقة للطلاب بأن حقوقهم لا تحتاج إلى ضجة كي تتحقق.
“يوسف” انتصر، نعم، لكن هناك من خسر احترام مؤسسته، ما لم نتوقف عن تلميع المسؤولين الذين يتحركون "بعد خراب مالطا"، ستظل قصص مثل معيد سوهاج تتكرر، وما نحتاجه ليس "بطلاً إعلامياً" في كل أزمة، بل نظاماً إدارياً شفافاً وعادلاً يُجنبنا كل هذا العبث.

search